اعلم أن للناس في حقيقة
الموت ظنونا كاذبة قد أخطأوا فيها:
فظن بعضهم أن الموت هو
العدم، وأنه لا حشر ولا نشر، ولا عاقبة للخير والشر، وأن موت الإنسان كموت
الحيوانات وجفاف النبات، وهذا رأي الملحدين وكل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
وظن قوم أنه ينعدم بالموت
ولا يتألم بضار ولا يتنعم بثواب ما دام في القبر إلى أن يعاد في وقت الحشر.
وقال آخرون: إن الروح
باقية لا تنعدم بالموت، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح دون الأجساد، وإن
الأجساد لا تبعث ولا تحشر أصلا.
وكل هذه ظنون فاسدة
ومائلة عن الحق. بل الذي تشهد له طرق الاعتبار وتنطق به الآيات والأخبار أن الموت
معناه تغير حال فقط، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد إما معذبة وإما منعمة.
ومعنى مفارقتها للجسد انقطاع تصرفها في الجسد بخروج الجسد عن طاعتها. فإن الأعضاء
آلات الروح تستعملها حتى إنها لتبطش باليد وتسمع بالأذن وتبصر بالعين، وتعلم حقيقة
الأشياء بالقلب. والقلب ههنا عبارة عن الروح، والروح تعلم الأشياء بنفسها من غير
آلة. ولذلك قد تتألم بنفسها بأنواع الحزن والغم والكمد وتتنعم بأنواع الفرح
والسرور. وكل ذلك لا يتعلق بالأعضاء، فكل ما هو وصف للروح بنفسها فيبقى معها بعد
مفارقة الجسد، وما هو لها بواسطة الأعضاء فيتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى
الجسد. ولا يبعد أن تعاد الروح إلى الجسد في القبر، ولا يبعد أن تؤخر إلى يوم
البعث. والله أعلم بما حكم به على كل عبد من عباده.
وإنما تعطل الجسد بالموت
يضاهي تعطل أعضاء الزمن بفساد مزاج يقع فيه، وبشدة تقع في الأعصاب تمنع نفوذ الروح
فيها، فتكون الروح العالمية العاقلة المدركة باقية مستعملة لبعض الأعضاء، وقد
استعصى عليها بعضها. والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات
والروح هي المستعملة لها. وأعني بالروح المعنى الذي يدرك من الإنسان العلوم وآلام
الغموم ولذات الأفراح. ومهما بطل تصرفها في الأعضاء لم تبطل منها العلوم
والإدراكات، ولا بطل منها الأفراح والغموم، ولا بطل منها قبولها للآلام واللذات.
والإنسان بالحقيقة هو
المعنى المدرك للعلوم وللآلام واللذات وذلك لا يموت أي لا ينعدم. ومعنى الموت:
انقطاع تصرفه عن البدن وخروج البدن عن أن يكون آلة له، كما أن معنى الزمانة خروج
اليد عن أن تكون آلة مستعملة، فالموت زمانة مطلقة في الأعضاء كلها، وحقيقة الإنسان
نفسه وروحه وهي باقية. نعم، تغير حاله منن جهتين:
إحداهما: أنه سلب منه
عينه وأذنه ولسانه ويده ورجله وجميع أعضائه، وسلب منه أهله وولده وأقاربة وسائر
معارفه، وسلب منه خيله ودوابه وغلمانه ودوره وعقاره وسائر أملاكه. ولا فرق بين أن
تسلب هذه الأشياء من الإنسان وبين أن يسلب الإنسان من هذه الأشياء. فإن المؤلم هو
الفراق، والفراق يحصل تارة بأن ينهب مال الرجل وتارة بأن يسبى الرجل عن الملك
والمال، والألم واحد في الحالتين. وإنما معنى الموت سلب الإنسان عن أمواله بإزعاجه
إلى عالم آخر لا يناسب هذا العالم، فإن كان له في الدنيا شيء يأنس به ويستريح إليه
ويعتد بوجوده فيعظم تحسره عليه بعد الموت ويصعب شقاؤه في مفارقته، بل يلتفت قلبه
إلى واحد واحد من ماله وجاهه وعقاره حتى إلى قميص كان يلبسه مثلا ويفرح به، وإن لم
يكن يفرح إلا بذكر الله ولم يأنس إلا به عظم نعيمه وتمت سعادته إذا خلي بينه وبين
محبوبه وقطعت عنه العوائق والشواغل، إذ جميع أسباب الدنيا شاغلة عن ذكر الله.
فهذا أحد وجهي المخالفة
بين حال الموت وحال الحياة.
والثاني: أنه ينكشف له
بالموت ما لم يكن مكشوفا له في الحياة، كما قد ينكشف للمتيقظ ما لم يكن مكشوفا له
في النوم، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، وأول ما ينكشف له ما يضره وينفعه من
حسناته وسيئاته، وقد كان ذلك مسطورا في كتاب مطوي في س ر قلبه وكان يشغله عن
الاطلاع عليه شواغل الدنيا، فإذا انقطعت الشواغل انكشف له جميع أعماله، فلا ينظر
إلى سيئة إلا ويتحسر عليها تحسرا يؤثر أن يخوض غمرة النار للخلاص من تلك الحسرة.
وعند ذلك يقال له كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [1]. وينكشف كل ذلك عند انقطاع
النفس وقبل الدفن، وتشتعل فيه نيران الفراق أعني فراق ما كان يطمئن إليه من
هذه الدنيا الفانية دون ما أراد منها لأجل الزاد والبلغة- فإن من طلب الزاد للبلغة
إذا بلغ المقصد فرح بمفارقته بقية الزاد إذ لم يكن يريد الزاد لعينه.
وهذا حال من لم يأخذ من
الدنيا إلا بقدر الضرورة وكان يود أن تنقطع ضرورته ليستغني عنه، فقد حصل ما كان
يوده واستغنى عنه. وهذه أنواع من العذاب والآلام عظيمة تهجم عليه قبل الدفن.
ثم عند الدفن قد ترد روحه
إلى الجسد لنوع آخر من العذاب، وقد يعفى عنه. ويكون حال المتنعم بالدنيا المطمئن
إليها كحال من تنعم عند غيبة ملك من الملوك في داره وملكه وحريمه اعتمادا على أن
الملك يتساهل في أمره، أو على أن الملك ليس يدري ما يتعاطاه من قبيح أفعاله، فأخذه
الملك بغتة وعرض عليه جريدة قد دونت فيها جميع فواحشه وجناياته ذرة ذرة وخطوة
خطوة، والملك قاهر متسلط وغيور على حرمه ومنتقم من الجناة على ملكه، وغير ملتفت
إلى من يتشفع إليه في العصاة عليه.
فانظر إلى هذا المأخوذ
كيف يكون حاله قبل نزول عذاب الملك به من الخوف والخجل والحياء والتحسر والندم.
فهذا حال الميت الفاجر
المغتر بالدنيا المطمئن إليها قبل نزول عذاب القبر به بل عند موته نعوذ بالله منه
فإن الخزي والافتضاح وهتك الستر أعظم من كل عذاب يحل بالجسد من الضرب والقطع
وغيرهما.
فهذه إشارة إلى حال الميت
عند الموت شاهدها أولوا البصائر بمشاهدة باطنة أقوى من مشاهدة العين، وشهد لذلك
شواهد الكتاب والسنة.
نعم، لا يمكن كشف الغطاء
عن كنه حقيقة الموت إذ لا يعرف الموت من لا يعرف الحياة، ومعرفة الحياة بمعرفة
حقيقة الروح في نفسها وإدراك ماهية ذاتها. ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يتكلم فيها ولا أن يزيد على أن يقول: "الروح من أمر ربي" . فليس لأحد من علماء الدين أن يكشف عن سر الروح وإن اطلع عليه،
وإنما المأذون فيه ذكر حال الروح بعد الموت.
ويدل على أن الموت ليس
عبارة عن انعدام الروح وانعدام إدراكها آيات وأخبار كثيرة. أما الآيات: فما ورد في
الشهداء إذ قال تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل
أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما ءاتاهم الله من فضله [2].
ولما قتل صناديد قريش يوم
بدر ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فلان! يا فلان! قد وجدت
ما وعدني ربي حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟" . فقيل: يا رسول الله! أتناديهم وهم أموات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنهم
لأسمع لهذا الكلام منكم إلا أنهم لا يقدرون على الجواب"[3].
فهذا نص في روح الشقي
وبقاء إدراكها ومعرفتها والآية نص في أرواح الشهداء. ولا يخلو الميت عن سعادة أو
شقاوة. وقال صلى الله عليه وسلم: "القبر إما حفرة من حفر
النار أو روضة من رياض الجنة"[4].
وهذا نص صريح على أن
الموت معناه تغير حال فقط، وأن ما سيكون من شقاوة الميت وسعادته يتعجل عند الموت
من غير تأخير، وإنما يتأخر بعض أنواع العذاب والثواب دون أصله.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحدكم عرض عليه
مقعده غدوة وعشية. إن كان من أهل الجنة فمن الجنة وإن كان من أهل النار فمن النار،
ويقال: هذا مقعدك حتى تبعث إليه يوم القيامة" [6].
وليس يخفى ما في مشاهدة
المقعدين من عذاب ونعيم في الحال.
وعن أبي قيس قال: كنا مع
علقمة في جنازة فقال: "أما هذا فقد قامت قيامته" . وقال علي كرم الله وجهه:"حرام على نفس أن تخرج من
الدنيا حتى تعلم من أهل الجنة هي أم من أهل النار" . وقال مسروق:"ما غبطت مؤمنا في اللحد قد استراح من نصب
الدنيا وأمن عذاب الله تعالى" . وقال يعلى بن الوليد:"كنت أمشي يوما مع أبي
الدرداء فقلت له: ما تحب لمن تحب؟ قال: الموت. قلت: فإن لم يمت؟ قال: يقل ماله
وولده، وإنما أحب الموت لأنه لا يحبه إلا المؤمن" .
والموت إطلاق المؤمن من
السجن، وإنما أحب قلة المال والولد لأنه فتنة وسبب للأنس بالدنيا، والأنس بمن لابد
من فراقه غاية الشقاء. فكل ما سوى الله وذكره والأنس به فلا بد من فراقه عند الموت
لا محالة. ولهذا قال عبد الله بن عمرو: "إنما مثل المؤمن حين تخرج
نفسه أو روحه مثل رجل بات في سجن فأخرج منه، فهو يتفسح في الأرض ويتقلب فيها" . وهذا الذي ذكره حال من تجافى عن الدنيا وتبرم بها ولم يكن له أنس
إلا بذكر الله تعالى، وكانت شواغل الدنيا تحبسه عن محبوبه ومقاساة الشهوات تؤذيه،
فكان في الموت خلاصه من جميع المؤذيات وانفراده بمحبوبه الذي كان به أنسه من غير
عائق ولا دافع.
وما أجدر ذلك بأن يكون
منتهى النعيم واللذات! وأكمل اللذات للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، لأنهم ما
أقدموا على القتال إلا قاطعين التفاتهم عن علائق الدنيا مشتاقين إلى لقاء الله
راضين بالقتل في طلب مرضاته، فإن نظر إلى الدنيا فقد باعها طوعا بالآخرة، والبائع
لا يلتفت قلبه إلى المبيع. وإن نظر إلى الآخرة فقد اشتراها وتشوق إليها. فما أعظم
فرحه بما اشتراه إذا رآه وما أقل التفاته إلى ما باعه إذا فارقه!
وتجدر القلب لحب الله
تعالى قد يتفق في بعض الأحوال ولكن لا يدركه الموت عليه فيتغير، والقتال سبب للموت
فكان سببا لإدراك الموت على مثل هذه الحالة. فلهذا عظيم النعيم، إذ معنى النعيم أن
ينال الإنسان ما يريده. قال الله تعالى: ولهم ما يشتهون [7]. فكان هذا أجمع عبارة لمعاني
لذات الجنة.
وأعظم العذاب أن يمنع
الإنسان عن مراده كما قال الله تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون [8]. فكان هذا أجمع عبارة لعقوبات
أهل جهنم، وهذا النعيم يدركه الشهيد كما انقطع نفسه- من غير تأخير، وهذا أمر
انكشف لأرباب القلوب بنور اليقين.
وإن أردت عليه شهادة من
جهة السمع فجميع أحاديث الشهداء تدل عليه، وكل حديث يشتمل على التعبير عن منتهى
نعيمهم بعبارة أخرى. فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لجابر: "ألا أبشرك يا جابر" -وكان قد استشهد أبوه يوم أحد- فقال: بلى، بشرك الله بالخير.
فقال: "إن الله عز وجل قد أحيا أباك وأقعده بين
يديه وقال: تمن عليه يا عبدي ما شئت أعطيكه. فقال: يا رب، ما عبدتك حق عبادتك،
أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك فيك مرة أخرى. قال له: إنه قد سبق
مني أنك إليها لا ترجع" [9]. وقال كعب: "يوجد رجل في الجنة يبكي
فيقال له: لم تبكي وأنت في الجنة؟ قال: أبكي لأني لم أقتل في الله إلا قتلة واحدة،
فكنت أشتهي أن أرد فأقتل فيه قتلات" .
واعلم أن المؤمن ينكشف له
عقيب الموت من سعة جلال الله ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن والمضيق، ويكون
مثاله كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف لا يبلغ طرفه
أقصاه، فيه أنواع الأشجار والأزهار والثمار والطيور فلا يشتهي العود إلى السجن المظلم.
وقد ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا فقال لرجل مات: "أصبح هذا مرتحلا عن الدنيا
وتركها لأهلها، فإن كان قد رضي فلا يسره أن يرجع إلى الدنيا كما لا يسر أحدكم أن
يرجع إلى بطن أمه" [10].
فعرفك بهذا أن نسبة سعة
الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى ظلمة الرحم. وقال صلى الله عليه وسلم:"إن مثل المؤمن في الدنيا
كمثل الجنين في بطن أمه إذا خرج من بطنها بكى على مخرجه حتى إذا رأى الضوء ووضع لم
يحب أن يرجع إلى مكانه" [11]. وكذلك المؤمن يجزع من الموت
فإذا أفضى إلى ربه لم يحب أن يرجع إلى الدنيا كما لا يحب الجنين أن يرجع إلى بطن
أمه.
وقيل لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: إن فلانا قد مات. فقال: "مستريح أو مستراح
منه" [12]. أشار بالمستريح إلى المؤمن
وبالمستراح منه إلى الفاجر إذ يستريح أهل الدنيا منه. وقال أبو عمر صاحب السقيا:
مر بنا ابن عمر ونحن صبيان فنظر إلى قبر فإذا جمجمة بادية فأمر رجلا فواراها. ثم
قال: "إن هذه الأبدان ليس يضرها هذا الثرى شيئا وإنما الأرواح التي
تعاقب وتثاب إلى يوم القيامة" .
وعن عمرو بن دينار قال: "ما من ميت يموت إلا وهو
يعلم ما يكون في أهله بعده وإنهم ليغسلونه ويكفنونه وإنه لينظر إليهم" . وقال مالك بن أنس: "بلغني أن أرواح المؤمنين
مرسلة تذهب حيث شاءت" . وقال أبو هريرة: قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم فإنها
تعرض على أوليائكم من أهل القبور" [13]. ولذلك قال أبو الدرداء: "اللهم إني أعوذ بك أن أعمل
عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة" ، وكان قد مات وهو خاله.
وسئل عبد الله بن عمرو بن
العاص عن أرواح المؤمنين إذا ماتوا أين هي؟ قال: "في حواصل طير بيض في ظل
العرش، وأرواح الكافرين في الأرض السابعة" . وقال أبو سعيد الخدري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الميت يعرف من يغسله
ومن يحمله ومن يدليه في قبره" [14]. وقال صالح المري: "بلغني أن الأرواح تتلاقى
عند الموت فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليهم: كيف كان مأواك؟ وفي أي
الجسدين كنت في طيب أو خبيث؟" وقال عبيد بن عمير: "أهل القبور يترقبون
الأخبار فإذا أتاهم الميت قالوا: ما فعل فلان؟ فيقول: ألم يأتكم؟ أو ما قدم عليكم؟
فيقولون:" إنا لله وإنا إليه راجعون [15]"سلك به غير سبيلنا" . وعن جعفر بن سعيد قال: "إذا مات الرجل استقبله
ولده كما يستقبل الغائب" . وقال مجاهد: "إن الرجل ليبشر بصلاح ولده
في قبره" .
وروى أبو أيوب الأنصاري
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن نفس المؤمن إذا قبضت
تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشير في الدنيا يقولون: انظروا أخاكم
حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد. فيسألونه ماذا فعل فلان؟ وما فعلت فلانة؟ وهل
تزوجت فلانة؟ فإذا سألوه عن رجل ميت قبله وقال: مات قبلي. قالوا: إنا لله وإنا إليه
راجعون. ذهب به إلى أمه الهاوية" [16].
وكلام الموتى إما بلسان
المقال أو بلسان الحال التي هي أفصح في تفهيم الموتى من لسان المقال في تفهيم
الأحياء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول القبر للميت حين يوضع
فيه: ويحك يا ابن آدم ما غرك بي؟ ألم تعلم أني بيت الفتنة، وبيت الظلمة، وبيت
الوحدة، وبيت الدود؟ ما غرك بي إذ كنت تمر بي فذاذا؟. فإن كان مصلحا أجاب عنه مجيب
القبر فيقول: أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فيقول القبر: إني إذا
أتحول عليه خضرا ويعود جسده نورا وتصعد روحه إلى الله تعالى" [17].
وقال عبيد بن عمير
الليثي: "ليس من ميت يموت إلا ناجته حفرته التي يدفن فيها: أنا بيت
الظلمة والوحدة والانفراد، فإن كنت في حياتك لله مطيعا كنت عليك اليوم رحمة، وإن
كنت عاصيا فأنا اليوم عليك نقمة. أنا الذي من دخلني مطيعا خرج مسرورا، ومن دخلني
عاصيا خرج مثبورا" .
وقال محمد بن صبيح: "بلغنا أن الرجل إذا وضع في
قبره عذب أو أصابه بعض ما يكره، ناداه جيرانه من الموتى: أيها المتخلف في الدنيا
بعد إخوانه وجيرانه أما كان لك فينا معتبر؟ أما كان في متقدمنا إياك فكرة؟ أما
رأيت انقطاع أعمالنا عنا وأنت في المهلة؟ فهلا استدركت ما فات إخوانك. وتناديه
بقاع الأرض: أيها المغتر بظاهر الدنيا هلا اعتبرت بمن غيب من أهلك في بطن الأرض
ممن غرته الدنيا قبلك، ثم سبق به أجله إلى القبور وأنت تراه محمولا تهاداه أحبته
إلى المنزل الذي لابد له منه" .
وقال يزيد الرقاشي: "بلغني أن الميت إذا وضع في
قبره احتوشته أعماله ثم أنطقها الله فقالت: أيها العيد المنفرد في حفرته! انقطع
عنك الأخلاء والأهلون فلا أنيس لك اليوم عندنا" . وقال كعب: "إذا وضع العبد الصالح في
القبر احتوشته أعماله الصالحة الصلاة والصيام والحج الجهاد والصدقة. قال: فتجيء
ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة: إليكم عنه فلا سبيل لكم عليه فقد أطال
بي القيام الله، فيأتونه من قبل رأسه فيقول الصيام لا سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه
لله في الدار الدنيا فلا سبيل لكم عليه، فيأتونه من قبل جسده فيقول الحج والجهاد:
إليكم عنه فقد أنصب نفسه وأتعب بدنه وحج وجاهد لله فلا سبيل لكم عليه. قال:
فيأتونه من قبل يديه فتقول الصدقة كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين
حتى وقعت في يد الله تعالى ابتغاء وجهه فلا سبيل لكم عليه. قال: فيقال له: هنيئا
طبت حيا وطبت ميتا. قال: وتأتيه ملائكة الرحمة فتفرش له فراشا من الجنة ودثارا من
الجنة ويفسح له في قبره يبعثه الله من قبره" .
وقال عبد الله بن عبيد بن
عمير في جنازة: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يقعد وهو يسمع
خطو مشيعيه فلا يكلمه شيء إلا قبره ويقول: ويحك ابن آدم أليس قد حذرتني وحذرت ضيقي
ونتني وهولي ودودي فماذا أعددت لي؟" [18].
قال البراء بن عازب:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم على قبره منكسا رأسه ثم قال: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب
القبر" . ثلاثا- ثم قال: "إن المؤمن إذا كان في قبل
من الآخرة بعث الله ملائكة كأن وجوههم الشمي معهم حنوطه وكفنه فيجلسون مد بصره،
فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء، وفتحت أبواب
السماء فليس منها باب إلا يحب أن يدخل بروحه منه. فإذا صعد بروحه قيل: أي رب عبدك
فلان. فيقول: أرجعوه فأروه ما أعددت له من الكرامة، فإني وعدته" منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
نخرجكم تارة أخرى [19].
"وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا
ولوا مدبرين حتى يقال: يا هذا. من ربك. وما دينك؟ وما نبيك؟ فيقول: ربي الله،
وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم" . قال: "فينتهرانه انتهارا شديدا وهي آخر فرصة
تعرض على الميت، فإذا قال ذلك نادى مناد أن قد صدقت" . وهي معنى قوله تعالى: يثبت الله الذين ءامنوا بالقول
الثابت [20].
"ثم يأتيه آت حسن الوجه طيب
الريح حسن الثياب فيقول: أبشر برحمة ربك وجنات فيها نعيم مقيم. فيقول: وأنت فبشرك
الله بخير، من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح والله ما علمت أن كنت لسريعا إلى طاعة
الله بطيئا عن معصية الله فجزاك الله خيرا" . قال: "ثم ينادي مناد أن أفرشوا له من فرش الجنة
وافتحوا له بابا إلى الجنة. فيفرش له من فرش الجنة ويفتح له باب إلى الجنة. فيقول:
اللهم عجل قيام الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي" .
قال: "وأما الكافر فإنه إذا كان
في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه ملائكة غلاظ شداد معهم ثياب من نار
وسرابيل من قطران فيحتوشونه، فإذا خرجت نفسه لعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل
ملك السماء، وغلقت أبواب السماء فليس منها باب إلا يكره أن يدخل بروحه منه، فإذا
صعد بروحه نبذ وقيل: أي رب عبدك فلان لم تقبله سماء ولا أرض. فيقول الله عز وجل:
أرجعوه فأروه ما أعددت له من الشر، إني وعدته" منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
نخرجكم تارة أخرى [21]. "وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا
ولوا مدبرين حتى يقال له: يا هذا، من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أدري.
فيقال: لا دريت" .
"ثم يأتيه آت قبيح الوجه
منتن الريح قبيح الثياب فيقول: أبشر بسخط من الله وبعذاب أليم مقيم. فيقول: بشرك
الله شرا من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، والله إن كنت لسريعا في معصية الله
بطيئا عن طاعة الله، فجزاك الله شرا. فيقول: وأنت فجزاك الله شرا. ثم يقيض له أعمى
أصم أبكم معه مرزبة من حديد لو اجتمع عليها الثقلان على أن يقلوها لم
يستطيعوا لو ضرب بها جبل صار ترابا- فيضربه بها ضربة فيصير ترابا، ثم تعود فيه
الروح فيضربه بها بين عينيه ضربة يسمعها من على الأرضين ليس الثقلين".
قال: "ثم ينادي أن أفرشوا له
لوحين من النار وافتحوا له بابا إلى النار، فيفرش له لوحان من نار ويفتح له باب
إلى النار" [22].
وقال محمد بنعلي: "ما من ميت يموت إلا مثل له
عند الموت أعماله الحسنة وأعماله السيئة. قال: فيشخص إلى حسناته ويطرق عن
سيئاته" .
وقال أبو هريرة: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة
فيها مسك وضبائر الريحان، فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين. ويقال: أيتها النفس
المطمئنة اخرجي راضية ومرضيا عنك إلى روح الله وكرامته، فإذا أخرجت روحه وضعت على
ذلك المسك والريحان وطويت عليها الحريرة وبعث بها إلى عليين" .
"وإن الكافر إذا احتضر أتته
الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا ويقال: أيتها النفس الخبيثة
اخرجي ساخطة ومسخوطا عليك إلى هوان الله وعذابه، فإذا أخرجت روحه وضعت على تلك
الجمرة وأن لها نشيشا ويطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين" [23].
وعن محمد بن كعب القرظي
أنه كان يقرأ قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي
أعمل صالحا فيما تركت }[24]. قال: "أي شيء تريد؟ في أي شيء
ترغب؟ أتريد أن ترجع لتجمع المال وتغرس الغراس وتبني البنيان وتشق الأنهار؟ قال:
لا. "لعلي أعمل صالحا فيما تركت". قال: فيقول الجبار: " كلا إنها كلمة هو قائلها [25]." أي: ليقولنها عند
الموت" .
وقال أبو هريرة: قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له في
قبره سبعون ذراعا ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر، هل تدرون في ماذا أنزلت" فإن له معيشة ضنكا[26]. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "عذاب الكافر في قبره يسلط
عليه تسعة وتسعون تنينا، هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية تسعة رؤوس
يخرشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون" [27].
ولا ينبغي أن يتعجب من هذا
العدد على الخصوص، فإن أعداد هذه الحيات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر
والرياء والحسد والغل والحقد وسائر الصفات، فإن لها أصولا معدودة ثم تتشعب منها
فروع معدودة ثم تنقسم فروعها إلى أقسام، وتلك الصفات بأعيانها هي المهلكات وهي
بأعيانها تنقلب عقارب وحيات، فالقوي منها يلدغ لدغ التنين، والضعيف يلدغ لدغ
العقرب، وما بينهما يؤذي إيذاء الحية.
وأرباب القلوب والبصائر
يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات وانشعاب فروعها، إلا أن مقدار عددها لا يوقف
عليه إلا بنور النبوة.
فأمثال هذه الأخبار لها
ظواهر صحيحة وأسرار خفية ولكنها عند أرباب البصائر واضحة، فمن لم تنكشف له حقائقها
فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها بل أقل درجات الإيمان التصديق والتسليم.
فإن قلت: فنحن نشاهد
الكافر في قبره مدة ونراقبه ولا نشاهد شيئا من ذلك فما وجه التصديق على خلاف
المشاهدة؟ فاعلم أن لك ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا:
أحدها: وهو الأظهر والأصح
والأسلم أن تصدق بأنها موجودة وهي تلدغ الميت ولكنك لا تشاهد ذلك، فإن هذه العين
لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت. أما
ترى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانوا يؤمنون بنـزول جبريل وما كانوا يشاهدونه،
ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده، فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان
بالملائكة والوحي أهم عليك. وإن كنت آمنت به وجوزت أن يشاهد النبي ما لا تشاهده
الأمة فكيف لا تجوز هذا في الميت؟ وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات
فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا بل هي جنس آخر وتدرك
بحاسة أخرى.
المقام الثاني: أن تتذكر
أمر النائم وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه وهو يتألم بذلك حتى تراه يصيح في نومه
ويعرق جبينه وقد ينـزعج من مكانه، كل ذلك يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى
اليقظان، وهو يشاهده وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى حواليه حية والحية موجودة في
حقه والعذاب حاصل ولكنه في حقك غير مشاهد. وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق
بين حية تتخيل أو تشاهد.
المقام الثالث: أنك تعلم
أن الحية بنفسها لا تؤلم بل الذي يلقاك منها هو السم، ثم السم ليس هو الألم بل
عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم، فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان
العذاب قد توفر، وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب
الذي يفضي إليه في العادة، فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة
صورة الوقاع لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه لتكون الإضافة للتعريف بالسبب
وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب، والسبب يراد لثمرته لا لذاته.
وهذه الصفات المهلكات
تنقلب مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت فتكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير
وجود حيات، وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق، فإن
كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما، حتى يرد بالقلب وأنواع العذاب ما
يتمنى معه أن لم يكن قد تنعم من العشق والوصال، بل هذا بعينه أحد أنوع عذاب الميت
فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه فصار يعشق ماله وعقاره وجاهه وولده وأقاربه
ومعارفه، ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو استرجاعه منه فماذا ترى يكون حاله؟
أليس يعظم شقاؤه ويشتد عذابه ويتمنى ويقول: ليته لم يكن لي مال قط ولا جاع قط فكنت
لا أتأذى بفراقه؟ فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعة واحدة.
ما حال من كان له واحد
غيب عنه ذلك الواحد
فما حال من لا يفرح إلا
بالدنيا فتؤخذ منه الدنيا وتسلم إلى أعدائه؟ ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسره على ما
فاته من نعيم الآخرة والحجاب عن الله عز وجل، فإن حب غير الله يحجبه عن لقاء الله
والتنعم به، فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته وحسرته على ما فاته من نعيم
الآخرة أبد الآباد وذل الرد والحجاب عن الله تعالى. وذلك هو العذاب الذي يعذب به
إذ لا يتبع نار الفراق إلا نار جهنم كما قال تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
ثم إنهم لصالوا الجحيم [28].
وأما من لم يأنس بالدنيا
ولم يحب إلا الله وكان مشتاقا إلى لقاء الله فقد تخلص من سجن الدنيا ومقاساة
الشهوات فيها، وقدم على محبوبه وانقطعت عنه العوائق والصوارف وتوفر عليه النعيم مع
الأمن من الزوال أبد الآباد، ولمثل ذلك فليعمل العاملون.
والمقصود أن الرجل قد يحب
فرسه بحيث لو خير بين أن يؤخذ منه وبين أن تلدغه عقرب آثر الصبر على لدغ العقرب،
فإذن ألم فراق الفرس عنده أعظم من العقرب وحبه الفرس هو الذي يلدغه إذا أخذ منه
فرسه، فليستعد لهذه اللدغات؛ فإن الموت يأخذ منه فرسه ومركبه وداره وعقاره وأهله
وولده وأحباءه ومعارفه، ويأخذ منه جاهه وقبوله، بل يأخذ منه سمعه وبره وأعضاءه
وييأس من رجوع جميع ذلك إليه، فإذا لم يحب سواه وقد أخذ جميع ذلك منه فذلك أعظم
عليه من العقارب والحيات.
وكما لو أخذ ذلك منه وهو
حي فيعظم عقابه فكذلك إذا مات، لأنا قد بينا أن المعنى الذي هو المدرك للآلام
واللذات لم يمت بل عذابه بعد الموت أشد، لأنه في الحياة يتسلى بأسباب يشغل بها
حواسه من مجالسة ومحادثة ويتسلى برجاء العود إليه ويتسلى برجاء العوض منه، ولا سلوة
بعد الموت إذ قد انسد عليه طرق التسلي وحصل اليأس.
فإذن كل قميص له ومنديل
قد أحبه بحيث كان يشق عليه لو أخذ منه فإنه يبقى متأسفا عليه ومعذبا به، فإن كان
مخفا في الدنيا سلم، وهو المعني بقولهم: نجا المخفون. وإن كان مثقلا عظم عذابه.
وكما أن حال من يسرق منه دينار أخف من حال من يسرق منه عشرة دنانير، فكذلك حال
صاحب الدرهم أخف من حال صاحب الدرهمين.
وما من شيء من الدنيا
يتخلف عنك عند الموت إلا وهو حسرة عليك بعد الموت، فإن شئت فاستكثر وإن شئت
فاستقلل، فإن استكثرت فلست بمستكثر إلا من الحسرة وإن استقللت فلست تخفف إلا عن ظهرك.
وإنما تكثر الحيات
والعقارب في قبور الأغنياء الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وفرحوا بها
واطمأنوا إليها.
فهذه مقامات الإيمان في
حيات القبر وعقاربه وفي سائر أنواع عذابه.
فإن قلت فما الصحيح من
هذه المقامات الثلاث؟ فاعلم أن في الناس من لم يثبت إلا الأول وأنكر ما بعده.
ومنهم من أنكر الأول وأثبت الثاني. ومنهم من لم يثبت إلا الثالث.
وإنما الحق الذي انكشف
لنا بطريق الاستبصار أن كل ذلك في حيز الإمكان. وأن من ينكر بعض ذلك فهو لضيق
حوصلته وجهله باتساع قدرة الله سبحانه وعجائب تدبيره، فينكر من أفعال الله تعالى
ما لم يأنس به ويألفه، وذلك جهل وقصور. بل هذه الطرق الثلاثة في التعذيب ممكنة
والتصديق بها واجب. ورب عبد يعاقب بنوع واحد من هذه الأنواع، ورب عبد تجمع عليه
هذه الأنواع الثلاثة نعوذ بالله من عذاب الله قليله وكثيره.
هذا هو الحق فصدق به
تقليدا، فيعز على بسيط الأرض من يعرف ذلك تحقيقا، والذي أوصيك به أن لا تكثر نظرك
في تفصيل ذلك ولا تشتغل بمعرفته، بل اشتغل بالتدبير في دفع العذاب كيفما كان، فإن
أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك كنت كمن أخذه سلطان وحبسه ليقطع يده
ويجدع أنفه، فأخذ طول الليل يتفكر في أنه هل يقطعه بسكين أو بسيف أو بموسى؟ وأهمل
طريق الحيلة في دفع أصل العذاب عن نفسه وهذا غاية الجهل. فقد علم على القطع أن
العبد لا يخلو بعد الموت من عذاب عظيم أو نعيم مقيم فينبغي أن يكون الاستعداد له،
فأما البحث عن تفصيل العقاب والثواب ففضول وتضييع زمان.
قال أبو هريرة: قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "إذا مات العبد أتاه ملكان أسودان أزرقان
يقال لأحدهما منكر وللآخر نكير. فيقولان: ما كنت تقول في النبي؟ فإن كان مؤمنا
قال: هو عبد الله ورسوله، أِشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فيقولان:
إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا وينور
له في قبره ثم يقال له: نم. فيقول: دعوني أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقال له: نم.
فينام كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.
وإن كان منافقا قال: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون شيئا وكنت أقوله. فيقولان: إن
كنا لنعلم أنك تقول ذلك. ثم يقال للأرض: التئمي عليه. فتلتئم عليه حتى تختلف فيها
أضلاعه فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك" [29].
وعن عطاء بن يسار قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا عمر! كيف بك إذا أنت مت
فانطلق بك قومك فقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع وشبر، ثم رجعوا إليك فغسلوك وكفنوك
وحنطوك، ثم احتملوك حتى يضعوك فيه، ثم يهيلوا عليك التراب ويدفنوك، فإذا انصرفوا
عنك أتاك فتانا القبر منكر ونكير، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق
الخاطف، يجران أشعارهما ويبحثان القبر بأنيابهما فتلتلاك وترتراك؟ كيف بك عند ذلك
يا عمر؟" . فقال عمر: ويكون معي مثل عقلي الآن؟ قال: "نعم" . قال: إذن أكفيكهما[30].
وهذا نص صريح في أن العقل
لا يتغير بالموت إنما يتغير البدن والأعضاء، فيكون الميت عاقلا مدركا عالما
بالآلام واللذات كما كان لا يتغير من عقله شيء. وليس العقل المدرك هذه الأعضاء بل
هو شيء باطن ليس له طول ولا عرض، بل الذي لا ينقسم في نفسه هو المدرك للأشياء. ولو
تناثرت أعضاء الإنسان كلها ولم يبق إلا الجزء المدرك الذي لا يتجزأ ولا ينقسم لكان
الإنسان العاقل بكماله قائما باقيا وهو كذلك بعد الموت، فإن ذلك الجزء لا يحله
الموت ولا يطرأ عليه العدم.
وقال محمد بن المنكدر: "بلغني أن الكافر يسلط عليه
في قبره دابة عمياء صماء في يدها سوط من حديد في رأسه مثل غارب الجمل تضربه به إلى
يوم القيامة، لا تراه فتتقيه ولا تسمع صوته فترحمه" . وعن حذيفة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس
على رأس القبر ثم جعل ينظر فيه ثم قال: "يضغط المؤمن في هذا ضغطة
ترد منه حمائله" [31].
وقالت عائشة رضي الله
عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للقبر ضغطة ولو سلم أو
نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ" [32].
وعن أنس قال: توفيت زينب
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة مسقامة فتبعها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فساءنا حاله، فلما انتهينا إلى القبر فدخله انتقع وجهه صفرة، فلما خرج
أسفر وجهه. فقلنا: يا رسول الله! رأينا منك شأنا فمم ذلك؟ قال: "ذكرت ضغطة ابنتي وشدة عذاب
القبر، فأتيت فأخبرت أن الله قد خفف عنها وقد ضغطت ضغطة سمع صوتها ما بين
الخافقين" [33].
وقال أبو هريرة: "إذا وضع الميت في قبره
جاءت أعماله الصالحة فاحتوشته، فإن أتاه من قبل رأسه جاء قراءته للقرآن، وإن أتاه
من قبل رجليه جاء قيامه، وإن أتاه من قبل قالت اليدان والله لقد كان يبسطني للصدقة
والدعاء لا سبيل لكم عليه، وإن جاء من قبل فيه جاء ذكره وصيامه، وكذلك تقف الصلاة
والصبر ناحية فيقول: أما إني لو رأيت خللا لكنت أنا صاحبه" . قال سفيان: "تجاحش عنه أعماله الصالحة
كما يجاحش الرجل عن أخيه وأهله وولده، ثم يقال له عند ذلك: بارك الله لك في مضجعك
فنعم الأخلاء أخلاؤك ونعم الأصحاب أصحابك" .
يستحب الثناء على الميت،
وألا يذكر إلا بالجميل. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه" [34]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد
أفضوا إلى ما قدموا" [35]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير
فإنهم إن يكونوا من أهل الجنة تأثموا، وإن يكونوا من أهل النار فحسبهم ما هم
فيه" [36].
وقال أنس بن مالك: مرت
جنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليها شرا. فقال عليه السلام:"وجبت" . ومروا بأخرى فأثنوا عليها خيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "وجبت" . فسأله عمر عن ذلك. فقال: "إن هذا أثنيتم عليه خيرا
فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، وأنتم شهداء الله في
الأرض" [37].
وقال أبو هريرة: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليموت فيثني عليه القوم الثناء
يعلم الله منه غيره فيقول الله تعالى لملائكته أشهدكم أني قد قبلت شهادة عبيدي على
عبدي وتجاوزت عن علمي في عبدي" [38]. وعن أبي هريرة قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "ما من عبد مسلم يموت فيشهد له ثلاثة أبيات
من جيرانه الأدنين بخير إلا قال الله عز وجل: قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا،
وغفرت له ما أعلم" [39].
تاريخ النشر: الأربعاء 20 يناير/كانون الثاني
2016
سورة الإسراء.
|
|
سورة آل عمران.
|
|
أخرجه الإمام مسلم رحمه الله من
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
|
|
أخرجه الإمام الترمذي رحمه الله من
حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله في
الموت بإسناد ضعيف.
|
|
متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله
عنهما.
|
|
سورة النحل.
|
|
سورة سبأ، 54.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت
بإسناد فيه ضعف، والترمذي وحسنه، وابن ماجة، رحمهم الله.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله
مرسلا ورجاله ثقات.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله
مرسلا.
|
|
متفق عليه.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا والمحاملي
رحمهما الله.
|
|
رواه الإمام رحمه الله
|
|
سورة البقرة، الآية 156.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني
رحمهما الله بإسناد ضعيف، ورواه ابن المبارك رحمه الله في الزهد موقوفا على أبي
أيوب رضي الله عنه بإسناد جيد.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني
وأبو أحمد الحاكم رحمهم الله من حديث الحجاج التمالي رضي الله عنه بإسناد ضعيف.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله في
القبور ورجاله ثقات.
|
|
سورة طه، الآية 55.
|
|
سورة إبراهيم، الآية 27.
|
|
سورة طه، الآية 55.
|
|
أخرجه أبو داود والحاكم رحمهما الله
قال صحيح على شرط الشيخين.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا وابن حبان
رحمهما الله مع اختلاف والبزار رحمه الله بلفظ المصنف.
|
|
سورة المومنون
|
|
سورة المؤمنون، 100.
|
|
سورة طه، 124.
|
|
رواه ابن حبان رحمه الله.
|
|
سورة المطففين، 15-16.
|
|
أخرجه الترمذي وحسنه وابن حبان مع
اختلاف.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله
ورجاله ثقات.
|
|
رواه الإمام أحمد رحمه الله بسند
ضعيف.
|
|
رواه الإمام أحمد رحمه الله بإسناد
جيد.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا من رواية
سليمان الأعمش عن أنس رضي الله عنه ولم يسمع منه.
|
|
أخرجه أبو داود رحمه الله من حديث
أمنا عائشة رضي الله عنها.
|
|
أخرجه الإمام البخاري رحمه الله من
حديث عائشة رضي الله عنها.
|
|
أخرجه ابن أبي الدنيا رحمه الله
بإسناد ضعيف من حديث عائشة رضي الله عنها وهو عند النسائي رحمه الله من حديث
عائشة رضي الله عنها بإسناد جيد مقتصرا على ما ذكر منه هنا بلفظ هلكاكم.
|
|
الحديث متفق عليه.
|
|
أخرجه الإمام أحمد رحمه الله من
رواية شيخ من أهل البصرة.
|
|
أخرجه الإمام أحمد رحمه الله من
رواية شيخ من أهل البصرة.
|
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق