أخي الحبيب:
لعلنا نتفق أن رمضان موسم غير
عادي لأهل التجارة مع الله عز وجل، وذلك لأننا نعلم فضيلة هذا الشهر الكريم
ومكانته، فهو شهر جليل وعظيم ينبغي التعامل معه بخصوصية تامة، ففيه من الفضل ما هو
معلوم.
شهر ليس ككل الشهور! أجل، من
أدركه فقد أدرك فرصة للتوبة والمغفرة إن هو هيأ الزاد، وأحسن الاستعداد، وشمر عن
ساعد الجد والاجتهاد؛ اسمع لنبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يخاطبك: "رغم أنف
امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له فقل آمين فقلت آمين ."
و"عَنْ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ الله عَنْه أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ
بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْ
الْآخَرِ فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ
بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي
الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِهِمَا فَخَرَجَ
خَارِجٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا ثُمَّ
خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ: ارْجِعْ
فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ. فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ
النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: "مِنْ أَيِّ ذَلِكَ
تَعْجَبُونَ"؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ
الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ
قَبْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً"؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ:
"وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي
السَّنَةِ"؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ".
فاحمد الله عز وجل على أن بلّغك
رمضان، فها أنت ما زلت حيا وغيرك قد رحل، ومعافى وغيرك مريض، وحرا طليقا وغيرك في
غياهب السجون، فما تنتظر؟"
لذا أقترح عليك أخي الحبيب -وعلى
نفسي– معالم مشروع رمضاني
يقربنا من الله عز وجل، يرتب الأولويات، ويروم التعلق بمعالي الأمر والابتعاد عن سفسافها،
وأول ذلك:
التوبة
الخالصة لله عز وجل
فلنعلنها توبة نصوحا لله تعالى
لا روغان فيها ولا تلكؤ، بالإقلاع عن الذنوب صغيرها وكبيرها، والندم على ما فات
وتقصيرنا في جنب الله، مع رد المظالم إلى أهلها سواء أكانت مادية أم معنوية. قال
الإمام عبد القادر الجيلاني –قدس
الله سره-: "التوبة
قلب دولة" ، فاقلب دولة نفسك بفطمها عن عوائدها وخمولها و كسلها، فإنها ميالة
إلى الدعة والراحة!
قال ابن القيم رحمه الله: "اعلم أن
العبد، قبل وصول الداعي إليه، في نوم الغفلة. قلبه نائم وطرفه يقظان. فصاح به
الناصح، وأسمعه داعي النجاح، وأذن به مؤذن الرحمن: حي على الفلاح. فأول مراتب هذا
النائم اليقظة والانتباه من النوم (...). وصاحب "المنازل" (يعني شيخ
الإسلام الهروي) يقول: (اليقظة) هي القومة لله المذكورة في قوله تعالى: "قل
إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى". سورة سبأ الآية 46." "قال:
"القومة لله هي اليقظة من سنة الغفلة، والنهوض عن ورطة الفترة. وهي أول ما
يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه. وهي على ثلاثة أشياء: لحظ القلب إلى
النعمة، على اليأس من عدها، والوقوف على حدها، والتفرغ إلى معرفة المنة بها،
والعلم بالتقصير فيها".
صم صيام
مودع
فلعلك إن صمت رمضان هذا العام،
لا تدرك القادم، فجدد النية، واعزم على الاستثمار الأفضل في هذا الشهر فإنه لن
يعود، فقد ورد في شأن عبادة الصلاة قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إذا قمت في
صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، واجمع الإياس مما في أيدي الناس". والصوم كذلك أيها المحب، فهو
عبادة السادات، وعبادة السادات سادات العبادات، وأحلى أعطيات الصوم وأغلى معانيه
الإخلاص، والإخلاص تجرد وخلاص. والصوم هو العبادة الوحيدة التي خصت بالنسبة إلى
الله: "إلا
الصيام فإنه لي".
تجديد الصلة
والعهد مع القرآن الكريم
لأن رمضان شهر القرآن، فالمحور
الرئيس للمشروع ينبغي أن يكون هو القرآن الكريم، قال الله تعالى":شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" سورة
البقرة، الآية 185. لذا يستحب لك أن تكثر من تلاوة القرآن وتدبره وفهمه ومدارسته.
ولنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة:
قال عبد الرزاق: كان سفيان
الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في
المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت.
وقال سفيان: كان زبيد اليماني
إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه.
وكان الزهري إذا دخل رمضان قال:
فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان
نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
وكان للشافعي في رمضان ستون
ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يدرس القرآن في شهر
رمضان.
واعلم أيها الحبيب، أن المؤمن
يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه، جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على
القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وُفي أجرَه بغير حساب. قال كعب:
ينادي يوم القيامة مناد إن كل حارث يعطى بحرثه ويزاد، غير أهل القرآن والصيام
يعطون أجورهم بغير حساب، ويشفعان له أيضا عند الله عز وجل، كما في المسند عن عبد
الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الصيام
والقيام يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب
بالنهار، يقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان" .
فالصيام يشفع لمن منعه الطعام
والشهوات المحرمة كلها، سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب
والنكاح ومقدماتها، أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم والنظر المحرم والكسب
المحرم، فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم
القيامة، ويقول: يا رب منعته شهواته فشفعني فيه، فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من
شهواته، فأما من ضيع صيامه ولم يمنعه مما حرم الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه
صاحبه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني، كما ورد مثل ذلك في الصلاة، قال بعض السلف:
إذا احتُضر المؤمن يقال للملك شم رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال: شم قلبه،
فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال:
حفظ نفسه حفظه الله تعالى.
وكذلك القرآن إنما يشفع لمن
منعه النوم بالليل، فأما من قرأ القرآن وقام به فقد قام بحقه فيشفع له، وقد ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقال: "ذاك
رجل لا يتوسد القرآن"،
قال ابن رجب: يعني لا ينام عليه فيصير له كالوسادة.
وأخرج الإمام أحمد من حديث
بريدة مرفوعا "أن
القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول: هل تعرفني؟
أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وكل تاجر من وراء تجارته، فيعطى
الملك والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج
الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا" .
فالبدار البدار أيها المحب،
وتعال نتصالح مع كتاب ربنا، فإنه هو العهد، هو حبل الله المتين، هو النور المبين،
ولنحذر أن يكون القرآن خصما لنا يوم القيامة. يا حسرة على العباد!!
جاءك النور فانتحيت
ظلاما دامسا يائسا بئيسا سكنته
جاءك النور في كتاب
مبين هو قرآن ربنا، هل قرأته؟
جاءك النور والهدى في
كتاب مصحف في الرفوف ثم طويته
اغتب نفسك
من أهم معالم مشروعك الرمضاني
أيها الحبيب، صوم اللسان، فلهذا الأخير صيام خاص يعرفه الذين هم عن اللغو معرضون،
وصيام اللسان دائم في رمضان، وفي غير رمضان، ولكن اللسان في رمضان يتهذب ويتأدب.
صح عن الحبيب المصطفى صلى الله
عليه وسلم أنه قال لمعاذ رضي الله عنه: ""كف
عليك هذا"، وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا
رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في
النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"".
فاللسان سبع ضار وثعبان ينهش
ونار تتلهب،
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
والله إن الموت زلة
لفظة فيها الهلاك وكلها خسران
فكيف يصوم من أطلق لنفسه
العنان؟ وكيف يصوم من لعب به لسانه، وخدعه كلامه، وغره منطقه؟ كيف يصوم من كذب
واغتاب وأكثر الشتم والسباب ونسي يوم الحساب؟
فبدل أن تغتاب الناس، حول سهام
الاتهام إلى نفسك الأمارة بالسوء واغتبها، واتهمها بالتقصير وسوء التدبير، وذكرها
بالمصير والحساب العسير، وافطمها عن عاداتها واسلك بها طريق ومنهاج البشير النذير،
عسى أن يقبلك القدير البصير سبحانه.
أيها المحب:
إنها أهم معالم مشروع رمضاني،
نسأل الله لنا ولكم القبول والتوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياكم من الرجال الذين
بادروا للآجال لعلمهم أن سير المنبة إعجال، وعرفوا أن الراحة في المعاد، فهجروا
طيب الرقاد، واشتغلوا بتحصيل الزاد.
بقلم: خالد البورقادي
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق