مضى شهر رجب الحرام، وأظلنا شهر كريم حبيب إلى حبيبنا المصطفى عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام. شهر شعبان، وندعو بالدعاء المأثور: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان).
سمي بشعبان لأن العرب كانوا يتشعبون فيه لطلب المياه، وقيل تشعبهم في الغارات، وقيل لأنه شعب أي ظهر بين رجب ورمضان. وفيه صرفت القبلة على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حسب رواية ابن إسحاق وبه قال الجمهور الأعظم.
وشهرنا هذا الذي هل هلاله على المسلمين في أنحاء المعمور، شهر البركة والخير، وهو بوابة شهر رمضان المبارك، يشرع فيه ما يشرع في رمضان من صيام وقراءة القرآن، ونوافل الطاعات “وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الصيام فيه أكثر من غيره. فعن أبي سلمة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهرا قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان” 1. (وفي لفظ قالت رضي الله عنها: “لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله” 2 والمراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال كما جاء في فتح الباري، زاد ابن أبي لبيد عن أبي سلمة: “ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان، كان يصومه إلا قليلا” 3.
ومن خصوصية هذا الشهر، المنحة الربانية، رفع الأعمال إلى الملإ الأعلى، فيقبل منها ربنا الحكيم العليم جل وعلا ما يشاء وما يريد. كانت الملاحظة النورانية للصحابي الجليل أسامة ابن زيد حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرى لأهل الله السالكين، الصابرين، الفائزين، الحاصلين على ورقة الدخول من باب في الجنة اسمه الريان، لا يدخله إلا الصائمون؛ فعنه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم في شعبان. قال صلى الله عليه وسلم: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع فيه عملي وأنا صائم” 4.
فبادر أيها المقصر مثلي، وشمر، واغترف ولا تسوف، فإنك لا تعلم إذا أصبحت هل تمسي وإذا أمسيت هل تصبح. ولتكن أيامك “الشعبانية” وسويعاتك ودقائقك وثوانيك كلها ذكرا واستغفارا وإقبالا على الله بالعكوف على قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار. وادع الله القبول، واغنم هذا الشهر الذي تختم فيه أعمال السنة، وزين صحيفتك عسى الله أن يمحو سيئاتك ويبدلها حسنات وكان الله غفورا رحيما، وروض نفسك على اقتحام عقبة الصيام، فقد جاء في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به”، وفي حديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ختم له بصيام يوم دخل الجنة”5. وإن مما يضاعف الأجر والثواب، الصيام في شدة الحر- ونحن مقبلون على أيام سترتفع فيها درجات الحرارة – لما فيه من ظمأ الهوا جر. ولنا في سادتنا الصحب الكرام رضوان الله عليهم وكثير من السلف الصالح الأسوة الحسنة. ذكر أهل السير أن أبا بكر الصديق كان يصوم في الصيف ويفطر في الشتاء، وكان أبو ذر يقول: (صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور). ووصى الفاروق رضي الله عنه عند موته ابنه عبد الله رضي الله عنه فقال: (عليك بالصيام في الحر في الصيف). وكان مجمع التيمي رحمه الله يصوم في الصيف حتى يسقط، وكانت إحدى الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا فتصومه فيقال لها في ذلك فتقول: (إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد). أيحتاج هذا الجواب إلى بيان؟! إنها الهمة العالية والنفس التواقة!
ومن فضائل هذا الشهر ليلة النصف منه حيث يغفر المولى عز وجل لجميع خلقه إلا من يشرك بالله أو قاطع رحم؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن” 6.
ونجمل القول على أن شهر شعبان حصاد أعمال العباد. وقد ذكر أهل العلم أن أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده، والصوم أفضل الأعمال كما جاء في حديث رواه النسائي وغيره أن أبا أمامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، مرني بعمل، قال: “عليك بالصوم، فإنه لا عدل له”.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق