عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "كان أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم إذا نظروا إلى هلال شهر شعبان أَكَبُّوا على المصاحف يقرؤونها، وأخرج
المسلمون زكاة أموالهم ليتقوى بها الضعيف والمسكين على صيام شهر رمضان، ودعا الولاةُ أهْلَ السجن، فمن كان عليه حدّ أقاموه عليه وإلا خلوا
سبيله، وانطلق التجار فقضوا ما عليهم وقبضوا ما لهم. حتى إذا نظروا إلى هلال رمضان
اغتسلوا واعتكفوا" .
هذا حال السلف الصالح رضي الله عنهم في استقبال رمضان وتعظيمه، وهو
التفرغ الكلي له بالاعتكاف وصدق التوجه
أخرج ابن خزيمة في صحيحه وغيره أن ابن مسعود الغفاري رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
-وأهلّ رمضان-فقال: "لو يعلم العباد ما رمضان لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها
رمضان"" .
وقد طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال على أصحابه تعظيما لهذا
الشهر الكريم فقال -فيما أخرجه ابن خزيمة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم-:"ماذا
يستقبلكم وتستقبلون؟ ماذا يستقبلكم وتستقبلون؟ ماذا يستقبلكم وتستقبلون؟ فقال عمر
بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله وحيٌ نزل؟ قال: لا. قال: عدو حضر؟ قال: لا.
قال: فماذا؟ قال: إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة،
وأشار بيده إليها" .
كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها. كان الأسود
يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه
خاصة وفي بقية الشهر في كل ثلاث. وكان قتادة يختم في كل سبع دائما وفي رمضان في كل
ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة. وكان للشافعي ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة
وعن أبي حنيفة نحوه. وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل
رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
قال ابن عبد الحكم: "كان مالك إذا دخل رمضان يقل من قراءة
الحديث ومجالسة أهل العلم، وأَقْبَلَ على قراءة القرآن وتلاوته من
المصحف" . قال عبد الرزاق: "كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان
ترك جميع العبادات وأقبل على قراءة القرآن" .
كان الصحابة يدركون أن من أهم أهداف المسلم في رمضان.. تكفير الذنوب،
ولهذا كانوا يستقبلونه بهذا المعنى، كما ورد عن عمر أنه كان يقول: «مرحباً
بمطهِّرنا من الذنوب
وكانوا يكثرون من الدعاء بالمغفرة، فقد كان عبد الله بن عمر - رضي
الله عنهما - إذا أفطر يقول: «اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي».
كان الصحابة يطيلون صلاتي التراويح والقيام، لا يقرؤون بآية أو آيتين
كما يصنع بعض المسلمين، فقد ورد عن السائب ابن يزيد قال: «أمر عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - أبَي بن كعب وتميم الداري - رضي الله عنهما - أن يقوما للناس في رمضان،
فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف
إلاَّ في فروع الفجر».
بل كان الصحابة يعدّون من يقرأ سورة البقرة في اثنتي عشرة ركعة من
المخففين، فعن عبد الرحمن بن هُرْمز قال: «ما أدركت الناس إلاّ وهم يلعنون الكفرة
في شهر رمضان، قال: فكان القراء يقومون بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قام بها
القراء في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف عنهم».
وكان الصحابة يقومون الليل حتى يقترب الفجر، وما يكاد أحدهم ينتهي من
السحر حتى يؤذَّن للفجر، فعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال:
سمعت أبي يقول: «كنا ننصرف في رمضان من القيام، فيستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر».
قال ابن رجب - رحمه الله -:"كيف لا يُبشَّر المؤمن بفتح أبواب
الجنان، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يُغَلُّ
فيه الشيطان، من أين يشبه هذا الزمانَ زمان؟".
فانظر إلى حال السلف في استقبالهم لرمضان، كيف كانوا يفرحون
بقدومه، ويبتهجون بحلوله؟
• قال مُعَلَّى بن الفضل: "كانوا يدعون
الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم".
• وكان يحيى بن أبي كثير يقول: "اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا
رمضان، وتسلمه منا متقبلا".
• و
قال ابن رجب : ["بلوغُ شهر رمضان
وصيامُه، نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين
استُشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فَرُئِي في النوم سابقا
لهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أليس صلى بعدهما كذا وكذا
صلاةً، وأدرك رمضان فصامه، فو الذي
نفسي بيده، إن بينهما لأبعدَ مما بين السماء والأرض"] صحيح سنن ابن ماجة.
أليس رمضان - إذا - نعمة جليلة تستوجب الشكر؟
قال النووي - رحمه الله -:"اعلم أنه يستحب لمن تجددت له نعمة
ظاهرة، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة، أن يسجد شكرا لله تعالى، وأن يحمد الله تعالى،
أو يُثني عليه بما هو أهله" الأذكار.
• كان لهم رمضان مدرسة لتعويد النفس على صيام
النوافل الإضافية، لأنهم سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول :"مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" متفق
عليه.
• وكان لهم رمضان مدرسة لتعويد النفس على
القيام، لما يجلبه من نور في الوجه، وحب يلقى في قلوب العباد.
• قال سعيد بن المسيب - رحمه الله -:"إن
الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره
قط فيقول: إني لأحبُ هذا الرجل" .
• وقيل للحسن البصري - رحمه الله -:"ما
بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم من
نوره".
• كانوا يعتبرون رمضان مدرسة للقرآن، تلاوة،
واستماعا، وفهما، وتدبرا، وعملا.
• فقد كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك
جميع الأعمال، وأقبل على قراءة القرآن.
• وكان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في
رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة.
• وكان رمضان لهم مدرسة لإذابة الشح من
النفوس، والمسارعة إلى الجود والعطاء. عن ابن عباس - رضي الله عنه – قال :"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة
من رمضان، فيدارسه القرآن. فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من
الريح المرسلة" متفق عليه. وعند أحمد زاد
:"لا يُسأل عن شيء إلا أعطاه".
• قال الإمام الذهبي
:"وبلغنا أن حماد بن أبي سليمان كان ذا دنيا متسعة، وأنه كان
يُفطِّر في شهر رمضان خمس مائة إنسان، وأنه كان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة
درهم".
قال الحسن البصري - رحمه الله -:"إن الله جعل رمضان مضمارا
لخلقه، يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا. فالعجبُ من
اللاعب الضاحك، في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون".
الإفطار مع المساكين
من عجيب أحوال ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان لا يفطر في رمضان
إلاّ مع المساكين ويحافظ على ذلك باستمرار فإذا منعهم أهله عنه لم يتعش تلك
الليلة!
وكان رضي الله إذا جاءه سائل وهو على طعامه اخذ نصيبه من الطعام وقام
فأعطاه السائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة من الطعام فيصبح صائما ولم
يأكل شيئا!
ولم يكن هذا التصرف من ابن عمر - رضي الله عنهما - خاصا به وحده بل
كان هديا وسمتا للصحابة والتابعين في رمضان.
وفي ذلك يقول أبو السوار العدوي - رحمة الله -: "كان رجال من بني
عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده إن وجد من يأكل معه
أكل وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه.
وروي عن بعض السلف قوله :"لان أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاما
يشتهونه أحب إلي من أن اعتق عشرة من ولد إسماعيل".
وكان بعض السلف مثل الحسن وابن المبارك رحمهما الله تعالى يستحب أن
يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم ويروّحهم.
روي عن حماد بن ابي سليمان - رحمه الله - أنه كان يفطر في شهر رمضان
خمسمائة إنسان.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق