لم تكن غزوة بدر الكبرى، حدثا عابرا في سيرة
الحبيب صلى الله عليه وسلم، وسيرة الرعيل الأول، الجيل الفريد رضوان الله عليهم،
فغزوة بدر حدث أرخ لانتهاء مرحلة المداراة والدفاع والاستضعاف، وبداية مرحلة
الندية في القوة والمواجهة والتعبئة لرد العدوان صاعين بصاع، أضحت معها جبهات
العدو تضرب ألف حساب لدولة الإسلام الفتية في المدينة المنورة. وغزوة بدر مدرسة
تلقى في حلبتها الجيل الأول، والأجيال المؤمنة من بعده أصولا تربوية عامة، لا تعنى
بالمعركة والقتال فحسب، ولكنها توجيهات خالدة، ترسم للمسلم علاقته بعقيدته
الربانية، وكيف يذود عنها بحكمة العقل ونور القلب،
وكيف يتخلص من تقديس الأسباب مع
الأخذ بها، فربه ورب الأسباب واحد، وأما النصر فليس نهاية المطاف، فلا مأمن من مكر
النفس اعتزازا بالنصر، أو تكبرا وبطرا في الأرض، فرب نصر أورث النفوس المريضة
تسابقا على غنائم النصر فوجب التوجيه، ورب فتح كسا الأخرى سمعة وعلوا، فرزئ الإسلام
في معادن رجاله، ولو كسب جولته، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
- وشاورهم في الأمر
كان الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيدا
بالوحي الإلهي المنزل على قلبه، لاينطق عن الهوى، ولا يعزم إلا على ما فيه خير
الإسلام والمسلمين، ومع ذلك كان يشاور أصحابه الكرام، ليجمع عزائم قلوبهم على ما
يقدم عليه صلى الله عليه وسلم، فكان سلوكه حتى في مثل هاته المواقف الصعبة، يبتغي
به بناء طليعة متلاحمة العقول والقلوب، لا تجنح فيها طبقة مستكبرة منفصلة عن باقي
الجماعة بفرض رأيها، فكان الأسوة والقدوة في ذلك، وهو يلقنهم قول الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً
غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ
إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ .
يقف الرسول صلى الله عليه وسلم على مشارف
بدر، وقد حسم العدو أمره في الانتقام لما اعتبره تهديدا لطرق تجارته إلى الشام،
ورجوع المسلمين إلى حال سبيلهم، ربما يكون رسالة خاطئة إلى قريش، يزيدها بطرا
وأشرا إلى كبريائها وعدوانها، وحرصا منه على جمع كلمة السندين الأساسيين للدعوة
والدولة الوليدة: المهاجرين والأنصار، استطلع آراءهما في خوض المعركة، ومن ثم "أتَاهُ الْمِقْدَادُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ (سورة
المائدة آية 24)، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَنَكُونَنَّ مِنْ
بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، أَوْ
يَفْتَحُ اللَّهُ لَكَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الأَنْصَارَ،
...، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ، لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا
أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا
وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
لِمَا أَرَدْتَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا
الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ،
وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا. إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ
الْحَرْبِ، صُدْقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ
بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ،
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ" ، وبذلك حصل الإجماع، والتقت عزائم القلوب
والإرادات على حد سواء، وهكذا تلتقي رحمة القيادة، مع المحبة والثقة والوفاء،
لتجتمع في قالب شوري، تستغني عن عزمة الأمير صلى الله عليه وسلم وحده، رغم ما خوله
الله تعالى من نفاذ ذلك.
- الأسباب والتوكل على الله
من خلال ما ورد من أحداث ما قبل المعركة،
ورغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم والثلة من أصحابه الذين لم يتجاوزوا الثلاثمائة
وأربعة عشر رجلا، فيهم فارسان، فقد بذل ما في وسعه من الأخذ بالأسباب الأرضية
الظاهرة، سيرا على سنة الله الكونية، وهو المؤيد بالله، المعصوم من الناس، ليعلم
أمته من بعده أن الأخذ بالأسباب عبادة لا تتنافى مع التوكل الدائم على الله تعالى،
فقد قسم الجيش إلى كتيبتين: كتيبة المهاجرين بقيادة علي بن أبي طالب، وكتيبة
الأنصار بقيادة المقداد بن عمرو، وإرساله كتيبة استطلاع لخطوط العدو، وعندما اختار
مكان نزول الجيش، نزل عن رأيه صلى الله عليه وسلم، وقدم رأي "الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل،
أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب
والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس
بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من
القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر
بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية" ، وغيرها من قواعد الحرب وخططها.
- وعجلت إليك ربي لترضى
كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يحرض
الصحابة على قتال العدو، ويرفع من معنوياتهم طلبا لرضا الله تعالى، فكانت هذه
الروح تحلق عاليا في طلب الحسنى وزيادة، تكسب المجاهد ثباتا قل نظيره، والعدو رهبة
وفزعا، وهذا نموذج من الرعيل الأول يستعجل لقاء ربه شهيدا، فعندما ""دنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها
السموات والأرض، يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات
والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على
قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال فإنك من
أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي
هذه إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل" . مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلًا .
- فداء وفرح بحسن المصير
ودرس آخر في الفداء بالروح وفلذة الكبد،
وبيع وشراء من نوع آخر، وهم يعالجون أنفسهم وأرواحهم بآيات بالقرآن تتنزل ندا
طريا، تحرك مشاعرهم لطلب المعالي، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ
اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ، وَذَٰلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، فكان يقينهم بوعد الله يزهدهم في الدنيا وما فيها
كلما نادى منادي الجهاد، فيلبون بأرواحهم، ويفدون بأعز ما يملكون، فهذه الصحابية
الجليلة - كما روى أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه -"أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ابْنُهَا الْحَارِثُ بْنُ سُرَاقَةَ أُصِيبَ
يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ حَارِثَةَ،
فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ احْتَسَبْتُ وَصَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصِبِ
الْجَنَّةَ اجْتَهَدْتُ فِي الدُّعَاءِ، فَقَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ،
إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ
الأَعْلَى"" .
وكان حارثة غلاما في
مقتبل العمر.
- رابطة الجند ثمرة فؤاد
وثمة أصل تربوي آخر، من وحي غزوة بدر
الكبرى، تلكم الرابطة القوية، التي التحمت فيها القيادة بالقاعدة، وتلك الصحبة
المباركة التي أحكمت رباط القلوب، فأصبحت الطاعة للأمير ليست مجرد انضباط عسكري
جاف، ولكنها ثمرة فؤاد وولاء صادق، وهذه الخصلة السنية، كانت تطفو معانيها في صف
عصبة المؤمنين المجاهدين بين الفينة والأخرى، ومنها، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده
قَدح يُعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية - حليف بني عدي بن النجار - وهو مستنتل من
الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: "استو يا سواد"، فقال: يا رسول الله!
أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن بطنه، وقال: "استقد"، قال: فاعتنقه فَقَبَّل بَطْنه، فقال:
"ما حملك على هذا يا سواد؟" قال: يا رسول الله! حَضَر ما ترى، فأردت أن
يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير" ، إنها العقيدة العسكرية الصادقة، التي تحرك
مشاعر المجاهدين، فتزيد الصفوف رصا من نوع آخر، و البلاء الحسن عند تلاحم المعركة والتقاء
الجمعان.
- وللمعية شرط لازم
معية الله تعالى، بداية التوفيق ونهايته،
وشرط النصر وثمرته، وهو القادر سبحانه وتعالى أن يرسل جنده التي لا يعلمها إلا هو، وَمَا
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ،
ينزلها سبحانه كيف يشاء ومتى يشاء، إن تحقق شرط الاستجابة، إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ،"معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه" ، وها هي ذي معركة بدر تلقن السابق واللاحق من المؤمنين، أصلا
تربويا آخر، يتعلم المجاهد معه اللَّجَأ إلى الله تعالى والإيواء إلى ركنه الشديد،
والارتماء في كنفه المنيع، ومعه الحرص على الاتصاف بشرط الإجابة، لأن الله مع
المتقين، مع الصابرين، مع المحسنين. في موقف الحسم بنزال بدر الكبرى، يقص القرآن
الكريم، والسيرة النبوية، ابتهال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه،
والاجتهاد في الدعاء والتوجه والإقبال على المولى الكريم، "لما كان يوم بدر نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه، وهم
ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي - صلى الله
عليه وسلم - القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: اللهم أين ما
وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا
تعبد في الأرض أبدا، قال: فما زال يستغيث ربه [عز وجل] ويدعوه حتى سقط رداؤه،
فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك
مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله -عز وجل-: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين،
ويشترط المولى سبحانه، على الفئة المؤمنة التزام الصبر والتقوى بَلَىٰ إِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ والصبر نصف الإيمان، والتقوى عماد الدين كله.
- وما يعلم جنود ربك إلا هو
علمتنا سنن الله الكونية في الكتاب السطور،
والواقع المنظور، أن لله جندا مجندة، ينزلها نفاذا لأمره، لا تستقيم وتقدير البشر
الضعيف، وهو وحده سبحانه يقدر حكمته في التعجيل أو التأخير، وإنما على الفئة
المؤمنة أن تتحلى بروح اليقين في وعد الله وموعوده، ولا تترك للشك إلى قلوبها
منفذا، مهما بدت الصورة قاتمة، والعدو منتصرا، لأن هذا الأخير لا يدري كيف يباغته
القدر، ومتى وأين، أبريح صرصر عاتية، أم أمواج بحر طاغية، أم خسف لا يبقي منهم
باقية، أم قحط لا يترك على ظهرها دانية، أم ملائكة تقاتل جنبا مع جنب لما استوت
طهارتها مع طهارة جند مؤمنين مخلصين له الدين، أو ماء طاهر يثبت الأقدام ويذهب رجس
الشيطان، أو نعاس يطمئن النفوس ويسكنها من نزغ الشيطان وكيده بالتخويف من عدد وعدة
العدو، كما اقتضت قدرة القادر سبحانه في غزوة بدر الخالدة، إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ
الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ،
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ
الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ،
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ .
- قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله
ليس النصر حيازة الملك، أو استعادة الملك،
أو التمكين في الأرض، وإنما النصر هو تحقيق عبودية الله في الأرض الَّذِينَ
إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمُورِ فكل ما
يشوب هذه الغاية النبيلة من التفات للاعتزاز بالنفس، أو طلب لحطام الدنيا، أو
اصطياد منصب بغير حق، أو طغيان في الأرض، مفسدة لقلوب الرجال، ومصقلة للمبادئ
الربانية التي تبنى عليها أسس انتصار الحق على الباطل، ومن ثم وجب التنبيه من الحق
سبحانه وتعالى إلى الفئة المؤمنة المجاهدة في بدر، وهي تلتفت إلى الحطام الزائل من
غنائم المعركة، وإن كانت الحاجة والفقر والسلب الذي تعرض له المهاجرون من قريش
يشفع لهم بسلوكهم هذا، أو لم يختر الله لهم الغنيمة الكبرى من إحقاق الحق، وكانوا
يودون بداية غير ذات الشوكة من أموال قريش بقافلة أبي سفيان؟وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ
ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ
بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ
الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ .
كان الحسم إذن من الحكيم العليم بكوامن
النفوس، لما تحركت تتسابق على غنائم الغزوة، وهي تسأل عن الأحق بها، وهذه طبيعة
النفس البشرية، عندما يعتريها الضعف أمام مباهج الدنيا حتى وإن كان أصحابها من
الرعيل الأول وخير القرون صحبة ومددا وتربية يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ،
قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ
بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، "ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً. نزع أمر
الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنزل حكمه في
قسمة الغنائم بجملتها........ لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على
الأنفال، هو الهتاف بتقوى الله.. وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب.. إنه
لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا، والنزاع عليها - وإن كان هذا
النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء - إلا استجاشة الشعور بتقوى الله
وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى.. إن قلباً لا يتعلق بالله، يخشى غضبه ويتلمس
رضاه، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض، ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق!" .
- وما النصر إلا من عند الله
ومسك الختام، تلك الإشارة الربانية،
الموجهة لقلوب المجاهدين ونياتهم، وهم يعالجون رؤوس الكفر، حيث لا أمان من
الالتفات والاعتزاز بالنفس، مع نشوة النصر، حيث كبرياء قريش تتعفر في ثرى المعركة،
بتهاوي الزعماء والأشراف واحدا تلو الآخر، هنا وجب التذكير، والتحصين، لتنسب كل
حركة رمي إلى الله: فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا،
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أو خاتمة نصر من الله: وَمَا
النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لأنه الفاعل في كونه سبحانه وتعالى، فعال لما يريد.
وبعد، هذه قطرة من بحر، وغيض من فيض الدروس
والعبر، من معركة فاصلة في تاريخ المسلمين، سماها الله (يوم الفرقان)، لتبقى
نبراسا على طريق الدعوة وإقامة الدولة اليوم وغد الإسلام الموعود بإذن الله تعالى.
المصدر
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق