عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت:"بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ استأذن رجل من اليهود، فأذن له، فقال: السَّام عَليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك. قالت: فهممت أن أتكلم. قالت: ثم دخل الثانية، فقال مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك، قالت: فهممت أن أتكلم، ثم دخل الثالثة، فقال: السَّام عليكم. قالت: فقلت: بل السام عليكم،
وغضب الله، إخوان القردة والخنازير، أتحيون رسول الله بما لم يُحيه به الله عز وجل؟! قالت: فنظر إليَّ فقال: مَهْ! إن الله لا يُحب الفحش ولا التفحش، قالوا قولاً فرددناه عليهم، فلم يضرنا شيئاً، و لزمهم إلى يوم القيامة، إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها" [1].
حقد سكن قلوب اليهود وأشربته أنفسهم، واستحال حربا وحسدا على الخليقة، وعلى المسلمين بالخصوص. ومن أشد ما يحسدوننا عليه يوم الجمعة، عرفوا خصائصه، بينما جهل المسلمون فضله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، فاليهود غداً والنصارى بعد غد" [2].
فضل يوم الجمعة
هو خير يوم طلعت فيه الشمس، فيه خلق آدم، وفيه أهبط إلى الأرض، و فيه نال المثوبة، وفيه توفاه الله عز وجل، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه ما لم يسأل حراماً، ولا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يُصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إيَّاه، وفيه تقوم الساعة. يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى.
قال حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ما من دابة إلا وهي مُصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة، إلا الجن والإنس" [3]وقال: "ما من ملَك مقرب ولا أرض ولا رياح ولا بَحْر ولا جبال ولا شجر، إلا وهن يشفق من يوم الجمعة" [4].
يوم المزيد
يجمع الله أهل الجنة يوم الجمعة في واد أفيح، وينصب لهم منابر من لؤلؤ، ومنابر من ذهب، ومنابر من زبرجد، وياقوت على كثبان المسك، فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى إذ يتجلى لهم، فيرونه عياناً، فليس هم في الجنة بأشوق منهم إلي يوم الجمعة، ليزدادوا نظراً إلى ربهم عز وجل وكرامته، ولذلك دعي يوم المزيد.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: "هذه بُحبوبة النعيم، يوم يدعى أحباب الله إلى كثبان النظر ومنابره وكراسيه. يومئذ تظهر فضيلة الصديقية والشهادة، جنبا إلى جنب يصطف الصديقون والشهداء مع النبيئين والمرسلين. طوبى لمن قسم الله لهم الحسنى وزيارة! اللهم اجعلنا منهم كرما ومنا" [5].
ويكون أسرع الناس موافاة لجمع يوم المزيد يوم القيامة أعجلهم رواحا إلى المسجد في الدنيا، وأقربهم من ربهم يوم القيامة أقربهم من الإمام في الدنيا.
آداب الجمعة
لذا يستحب التبكير إلى الجمعة، ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "إذا كان يوم الجمعة، قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة، يكتبون الناس، الأول فالأول، فالمهَجر إلى الجمعة كالمُهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي كبشاً، ثم ذكر الدجاجة والبيضة، فإذا جلس الإمام طووا الصحف واستمعوا الخطبة" [6].
كما يستحب للمصلي يوم الجمعة الاغتسال والتسنن ولباس أحسن الثياب والتطيب، فـ"عن سيدنا ابن عمر أن سيدنا عمر رضي الله عنهما بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين فناداه عمر: أيةُ ساعة هذه؟! فقال: إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على أن توضأتُ. قال: والوضوء أيضاً؟! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل!" [7].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غسَّل يوم الجمعة، واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنته، أجر صيامها وقيامها" [8].
ولا يكسل المؤمن عن قراءة سورة الكهف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين" [9]، ولا يبخل بالإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لأمر المصطفى الحبيب: "أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة" [10]، قال ابن القيم: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيدُ الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة، فإنما نالته علي يده، فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة، فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة، وهو يوم المزيد إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم فيه يُسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا تُردُّ مسائلهم، وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته" [11].
كما يستحب للإمام أن يقرأ بسورتي (السجدة) و(هل أتى على الإنسان) في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المعاد وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة.
وليحذر المسلم من ترك صلاة الجمعة فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين" [12]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من ترك ثلاث جُمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه" [13].
نعوذ بالله من غضب الله، ونعوذ بالله من الغفلة عن الله.
جهاد الجمعة
من طرائف الربيع العربي، التي تناقلها الشباب، وُدُّ الحكام إلغاء يوم الجمعة من الأسبوع، حين تُوج بأسماء الغضب والحرية والعز.
ودائما كانت المساجد ومنابر الجمعات منطلق الجهاد ومهد التغيير، نقل الأستاذ عبد السلام ياسين عن الأستاذ معنينو قوله تحت عنوان: "الهزة النفسية الكبرى تنطلق من المسجد الأعظم بسلا بذكر اسم الله اللطيف" . ويقول: "أود بكل نزاهة وتجرد أن أسجل للتاريخ وللأجيال الصاعدة حقيقة انطلاقة الشرارة الأولى لمقاومة الظهير البربري المشؤوم الذي أصدرته السلطات الاستعمارية بتاريخ 16 ماي 1930 م. وذلك بذكر اسم الله اللطيف في المسجد الأعظم بمدينة سلا يوم الجمعة 27 يونيو 1930 م، والتي أعطت أكبر انتفاضة للشعب المغربي قاطبة ضد الاحتلال والوجود الأجنبي في هذه البلاد" [14].
فالجمعة يوم تجمع عام. لابد أن يحضر المسلمون الحريصون على دينهم صلاة الجمعة: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون[15].
ويتوقف فيه البيع والشراء ويتأكد ترك التجارة وكل شغل إذا نودي للصلاة. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: "وعلى الدولة أن تسهر على تطبيق العطلة عن كل شغل يوم الجمعة، وأن تستبدل بعطلة اليهود والنصارى عطلة المؤمنين. ومن المعلوم عند علمائنا أن العقود باطلة إن أشهد عليها تلك الساعة الخاصة من اليوم المبارك. قال مالك رحمه الله : يحرم البيع حتى يخرج الإمام يوم الجمعة" [16].
وفطن الحكام في بلادنا لأهمية الجمعة في استنهاض المسلمين وتعبئتهم ضد الظلم والفساد، فحاولوا تحييد دورها، بل عملوا على عكس دورها، وتوظيف منبرها لإضفاء المشروعية على الاستبداد وعلى أفعاله، فأمموا المساجد، واستأجروا الخطباء، وكبلوا الأحرار منهم بقيود التبعية للوزارة الوصية، وقهروهم بسيف العزل والتضييق، وجعلوا يوم الجمعة يوم شغل وعمل، بدل أن يكون يوم تفرغ للعبادة، قال ابن القيم: "إنه اليوم الذي يُستحب أن يُتفَّرغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مزية بأنواع العبادات واجبة ومستحبة، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوماً يتفرغون فيه للعبادة، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان، ولهذا من صح له يوم جمعته وسلِم، سلمت له سائر جمعته، ومن صح له رمضان وسلم، سَلِمت له سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له، صح له سائر عمره، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر" [17].
[1]رواه أحمد (6 / 134، 135)، قال الأرناؤوط: سند حسن، وله شواهد في الصحيح وغيره.
[2]رواه البخاري (876)، ومسلم (856).
[3]رواه أبو داود (1046)، والترمذي (491)، والنسائي (1430) وصححه الأرناوؤط وغيره.
[4]الطبراني في معجمه الكبير، ج5، ص33، ح4511.
[5]الأستاذ عبد السلام ياسين، الإحسان، ج2، ص88.
[6]رواه مسلم.
[7]متفق عليه.
[8]حديث حسن، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم.
[9]رواه النسائي والبيهقي والحاكم وصححه الألباني في الصحيحة (2651).
[10]رواه البيهقي من حديث أنس وحسنه الأرناوؤط، وهو في الصحيحة (1407).
[11]زاد المعاد (1 / 376).
[12]رواه مسلم.
[13]رواه أحمد والحاكم وغيرهم.
[14]الأستاذ عبد السلام ياسين، حوار الماضي والمستقبل، ص302.
[15]الجمعة، الآية 9.
[16]الأستاذ عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص136.
[17]زاد المعاد (1 / 398).
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق