الإنسان: قبضة من طين ونفخة ملك
يقول الله جل وعلا في كتابه الحكيم: وَإِذ قَال رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [1].
فالإنسان بشر مخلوق عجيب وغريب، خلقه الله عز وجل من عنصرين اثنين مختلفين، أحدهما مادي، طيني، أرضي. والآخر روحي، نوراني، سماوي.
خلقه الله سبحانه ليقضي حياته الدنيا الفانية في تطلع إلى الآخرة الباقية. ومن هنا فهو مطلوب إليه أن يعيش في عالم المادة وعالم الروح معا في تجاذب وتفاضل حتى يصبح من الفائزين المرضيين في الدار الآخرة. قال عز من قائل: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [2].
مطلوب إليه أن يعيش في تفاعل مع الأرض وتواصل مع السماء. فمأكله ومشربه وملبسه مما يخرج من الأرض، وهذا من طبيعة أصله الجسمي. قال المولى سبحانه:وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِين [3].
وفي مقابل هذا فهو في حاجة إلى غداء لروحه، مما ينزل من السماء من وحي إلهي على أ يدي الأنبياء والمرسلين عليهم أزكى الصلاة والتسليم، به تتغذى روحه وتتزكى لترقى في مدارج القرب من الله تعالى، والإدراك للحق ومحبة الخير للغير إلى أن تتصف بجميع مواصفات الجمال والكمال.
فهذا هو أصله الروحي - نفخة ملك تتغذى مما يأتيها من عند الحق سبحانه. فلا قيمة للإنسان ولا معنى له إلا بهذا النفخ.
فوظيفة الأنبياء والمرسلين ومن ورثهم تزكية أنفس الناس، وتربيتهم وتعليمهم حتى لا تطغى قبضة الطين على نفخة الروح، ويرتبطوا بالله عز وجل وبأوامره ونواهيه عبودية ومحبة إتباعا للوحي المنزل، قال سبحانه وتعالى: وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين[4].
القرآن: حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض
وبعد فحادث نزول القرآن الكريم وحيا منزلا على أشرف المرسلين عليهم أزكى الصلاة والتسليم، لمن أعظم الحوادث في حياة البشرية جمعاء، وفي تاريخ الأرض الطويل، قال تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [5].
فهو الحبل الممدود بين السماء والأرض، وهو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباب الله تعالى، والمعجزة الدائمة، والنور الذي لا ينحجب، كما أن نزول هذا القرآن يعد التفاتة كرم، وفضل ومنة من المولى جل وعلا، مالك الملك إلى هذا المخلوق الضعيف الجاهل، الساكن في - الأرض - ركن من أركان الكون لا يكاد يُرى. فلو قضى الإنسان عمره كله راكعا ساجدا شكرا لله على هذه النعمة ما أوفى حق الله عز وجل أبدا.
"إنه القرآن رسالة الإسلام للإنسان، فيه شَرَّع الله عز وجل من الشعائر ما به ينتصر الإنسان على النفس والهوى والشيطان، أولها أركان الإسلام من شهادة، وصلاة، وزكاة، وصيام رمضان، والحج. ويعد الصيام من أعظم ساحات الجهاد الروحي للإنسان في الإسلام"
الصوم: نصف الصبر وربع الإيمان
إلا أن أهم سلاح لجهاد النفس ومعالجتها هو الصبر، أبو الفضائل وأمها، وباب معية الله ومحبته، قال تعالى: إن الله مع الصابرين [6]، والله يحب الصابرين [7]. [فالصبر قوة، وهو من صفات الرجال أهل الإيمان ولإحسان والكمال. فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل
ويضيف أبو حامد الغزالي رحمه الله منسقا وجامعا: الصبر ربع الإيمان بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم "الصوم نصف الصبر" . وبمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم"الصبر نصف الإيمان" .
والصوم باب العبادات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل شيء باب وباب العبادة الصوم" .
فلسمو مكانة الصوم ومنزلته أنسبه الله جل شأنه إلى نفسه حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فانه لي وأنا اجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك" [8].
فجدير بنا أن يكون إقبالنا على صيام هذا الشهر المبارك من حيث كونه لله، محبة وشوقا والله عند حسن ظن عبده به فليظن به ما يشاء.
الصوم: عبادة الأنبياء والمرسلين والصالحين
حينما أمرنا الحق سبحانه بالصوم بمعناه الحقيقي -السمو الخلقي والاتصال الوجداني بالبارئ جل وعلا- فإنما أراد بمشيئته سبحانه أن يسبغ علينا من السعادة الروحية، والأمن والسكينة، والقربى إليه سبحانه، وما به تقر أعيننا.
وبالصوم كان الأنبياء والرسل الصالحين يهيئون أنفسهم لربط الصلة بالله، حتى تصبح أخلاقهم ملائكية، "فقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الحكيم أن الله لما أراد مكالمة سيدنا موسى عليه السلام هيأه لهذا المقام الرفيع بأن أمره بصيام أربعين يوما، قال تعالى: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة[9]،فلما تهيأت نفس النبي موسى عليـه السلام لخطـاب ربه وتحمـل أنواره –وذلك بالصيام– أفاض الله عليه أنواره الربانية وكلمه بلا واسطة" ، وسيدتنا مريم البتول التي اصطفاها الله، وطهرها واصطفاها على نساء العالمين قال الله تعالى واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فاتخذت من دونهم حجابا [10]. أي تنحت واعتزلت أهلها في مكان شرقي ببيت المقدس لتتفرغ لعبادة الله، صلاة وذكرا وتبتلا ومناجاة. ولاشك أن يكون الصيام من عبادتها فهو باب العبادة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما سبق "لكل شيء باب وباب العبادة الصوم" ، كما أن الصوم كتب على كل الأنبياء والرسل قال تعالى في كتابه الحكيم من سورة البقرة:كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ، فقد بلغت السيدة البتول من الطهر والصفاء والسمو الروحي ما به كلمتها الملائكة فكانت معجزة الله الفريدة في الكون البشري. قال سبحانه فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا[11].
ولهذا أمرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بالصوم لأنه يضيق على الشيطان الطريق إلى الإنسان قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالصوم" [12].
الريان: باب في الجنة لا يدخله إلا الصائمون
لما كان للصوم من أفضال ومكارم، وعد الله عز وجل الصائمين ببشارة أولية بالجنة وتخصيصهم بابا من أبوابها سماه "الريـان". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريـان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة" قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها قال: نعم وأرجو أن تكون منهم" [13].
تــأمــــــلات
إن المتأمل في كتاب الله الحكيم يجد أن المولى جل وعلا كثيرا ما يقرن بين أمرين اثنين:
لقد قرن بين عبادتين حيث قال سبحانه: أقيموا الصلاة واتوا الزكاة [14] .
وقرن بين حقين حيث قال جل شأنه: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [15].
كما قرن بين فريضة وفضيلة وقال سبحانه: واستعينوا بالصبر والصلاة [16].
وقرن بين شرط ووعد في قوله تعالى: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم[17]، لئن شكرتم لأزيدنكم [18].
أما الصيام فقد قرنه سبحانه لوحده بأمرين اثنين لا ينفصلان: الدعاء والقرآن، لأن من القرآن ما هو دعاء ومن الدعاء ما هو قرآن. ذكر الله عز وجل هذا الارتباط في مجمل من الآيات المتسلسلة والمتداخلة في سورة البقرة حيث قال سبحانه: يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [19]، وبعده قال سبحانه:شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [20].ثم قال عز وجل: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [21]. إن المتأمل في هذه السلسلة من الآيات يجد الصلة وثيقة بين الصيام والقرآن والدعاء، وهي ثلاثية لا غنى لنا عنها للفوز بالمغفرة والرحمة والعتق من النار في هذا الشهر المبارك والضيف الكريم.
"هكذا نرى أن معالجة النفس وزجرها عن اتباع الهوى، وعن زلقات الغريزة وخطوات الشيطان وحملها على الطاعات لله عبودية له، وخوفا منه، وتصديقا بوعده، هي الخصلة التي تدور عليها سعادة المرء أو شقاؤه، خسرانه أو فوزه"
والسابقون السابقون أولئك المقربون
لكن الله عز وجل إذ حذرنا من ناره في دار الآخرة، وشوقنا إلى جنانه فليس هذا وحده ما يمن ويكرم به عباده الصالحين، المقربين، السابقين الأولين فقط. إن ما تقر به أعينهم وتسعد به أرواحهم هو النظر إلى وجهه الكريم جل شأنه. ولبلوغ هذا المقام فإنه مطلوب إلينا أن نعبد الله سبحانه ليس خوفا من ناره أو رغبة في جنته، بل شوقا إلى لقائه والنظر إلى وجهه العزيز، إنه النور، العالم، مالك الملك، ذي الجلال والإكرام.
يقول أهل الله العارفين به رضي الله عنهم: "هل تجتمع إرادة الله مع إرادة الجنة؟ فإننا نقرأ في كلام أئمة صالحين مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني أن الزهد في الدنيا والآخرة خطوتان لابد منهما قبل الطمع في النظر الى وجه الله. تضع الدنيا خلفك والآخرة ونعيمها أيضا" .
وقالت السيدة رابعة العدوية رحمها الله المغمورة بحب الله والشوق إليه:
ليس لي في الجنان والنار رأي أنا لا أبتغي بحبي بديلا
رضي الله عنها وأرضاها وقر عينها بما اشتاقت إليه. والحمد لله رب العالميــــن.
---------------------------------
[1]سورة الحجرات: الآيتان 28- 29.
[2]سورة الإسراء: الآية 21.
[3]سورة الأنبياء: الآية 8.
[4]سورة الأنبياء: الآية 72.
[5]سورة الحشر 21.
[6]سورة البقرة: الآية 249.
[7]سورة آل عمران الآية 146.
[8]رواه مسلم وهذا لفظه.
[9]الأعراف الآية 142.
[10]سورة مريم الآية 16 – 17.
[11]سورة مريم الآية 18.
[12]متفق عليه.
[13]متفق عليه.
[14]سورة البقرة الآية 110.
[15]سورة الإسراء الآية 23.
[16]سورة البقرة الآية 45.
[17]سورة محمد الآية 7.
[18]سورة إبراهيم الآية 7.
[19]سورة البقرة الاية 182.
[20]سورة البقرة الاية 184.
[21]سورة البقرة 185.
[2]سورة الإسراء: الآية 21.
[3]سورة الأنبياء: الآية 8.
[4]سورة الأنبياء: الآية 72.
[5]سورة الحشر 21.
[6]سورة البقرة: الآية 249.
[7]سورة آل عمران الآية 146.
[8]رواه مسلم وهذا لفظه.
[9]الأعراف الآية 142.
[10]سورة مريم الآية 16 – 17.
[11]سورة مريم الآية 18.
[12]متفق عليه.
[13]متفق عليه.
[14]سورة البقرة الآية 110.
[15]سورة الإسراء الآية 23.
[16]سورة البقرة الآية 45.
[17]سورة محمد الآية 7.
[18]سورة إبراهيم الآية 7.
[19]سورة البقرة الاية 182.
[20]سورة البقرة الاية 184.
[21]سورة البقرة 185.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق