.



الصفحات

الزيارات:
أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك

بقلم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
انه ليس العدو الداهم الذي يستقر مستعمراً في ديارك ، وليس الفرقة التي تشتت القوى وتباعد الصفوف ، ولا تلك الأسلحة المذهلة التي تنذر بالدمار الشامل ، ولا المجاعة الرهيبة التي تهدد نصف الكرة الأرضية بسبب تناقص نسبة الانتاج أمام تزايد عدد السكان . 

انما الخطر الأكبر شيء أشد رهبة من هذا كله !.

انه ذاك الذي يمكن العدو من التسلل الى الديار ، وهو ذاك الذي يهيىء الأسلحة للانفجار والوقود للاشتعال ، وهو ذاك الذي يوجد أسباب الخصومة والفرقة ويقضي على فرص الوحدة والتعاون .

انه أعدى عدو لنا على الاطلاق . انه نفوسنا التي بين جنبينا !.

أجل . . فالنفس الانسانية التي لم تقترن ، مع العمل الصالح ، في سير منضبط على المنهج الاسلامي الصحيح ، هي الخطر الأكبر في حياة المسلمين اليوم ، ما في ذلك شك ولا ريب .

ذلك أن الاسلام في جوهره ليس الا تهذيباً وتربية للنفس ، كي تتخلى عما تتسم به عادة من الأنانية والكبرياء والتعلق بزخرف هذه الحياة الدنيا ، ثم لتدخل في محراب العبودية لله تعالى طوعاً كما انطبعت بحقيقتها قسراً . فعندئذ يصبح السلوك ثمرة من ثمرات عبودية النفس لله ويكون واقع كل منهما تصديقاً للآخر . اذ تستقر المحبة الأخوية الصادقة في مكان الأنانية البغيضة ، وتخضع النفس لقانون العبودية لله بدلاً من الكبرياء الزائفة على الخلق وتستيقن معنى هذه الحياة التي ليست في حقيقتها الا جسراً للحياة الخالدة الأخرى فلا تتعلق من الدنيا بشيء ولا تأخذ من خيرها ونعيمها الا ما يكون عوناً لها على السير في الصراط الاسلام وتحقيق مرضاة الله عز وجل . فيتم من ذلك الانسجام المطلوب بين حقيقة هذه النفس المسلمة والسلوك الاسلامي الذي يشيع في تلاق وتعاون بين المسلمين ، ولا تجد بين هؤلاء المسلمين سبباً لتخاصم أو تدابر ، ولا يمكن أن يقوم بينهم حقد وتحاسد ، أو أن يفرقهم عن بضعهم دنيا يتنافسون فيها أو زعامة يتسابقون عليها . فتتوفر لهم من ذلك القوة التي لا تغلب ، والوحدة التي لا تتصدع ، ويتداركهم الله تعالى بنصره الصادق المبين ، ويعيشون في بلادهم أعزاء كرماء آمنين . 

وعندما لا تأخذ النفس من هذه التربية بنصيب ـ وتلك هي حال نفوسنا اليوم ـ فان ازدواجاً خطيراً يقوم في كيان المسلم ، اذ تنشطر شخصيته ما بين سلوك اسلامي ظاهر يتمثل في أقوال وافعال معينة ، ونفس هائجة تائهة مستغرقة في أمانيها الدنيوية وأحلامها الذاتية . 

وقصارى ما يكون عليه صاحب هذه النفس من الفضائل والمزايا الاسلامية ، أن يلتقط من مظاهر السلوك الاسلامي كل ما يجر له حظاً من المغنم ولا يكلفه شيئاً من المغرم فيكون في ظاهر أمره معها قائماً بحق الله مجاهداً في سبيله ، وفي باطن الأمر مقدماً للنفس لوناً آخر من مطامحها الدنيوية وأحلامها الذاتية . 

والدين في واقع الأمر عند أصحاب هذه النفوس ليس الا ترساً يتقي به أحدهم ما قد يتلقاه من الانكار على خبيثة أمره ، أو هو ليس الا لثامأً يستر به عن الناس حقيقة ما في نفسه . 

وهيهات أن ينهض المجتمع الاسلامي المنشود على مجن أو لثام من التدين ، دون أن تجد من ورائه تحملاً لما قد يرهق النفس أو يخالف شيئاً من أهوائها وتطلعاتها الذاتية . 

وما أيسر على صاحب هذه النفس أن يصطنع المعاذير ويفتح لها سبل التهرب الشرعي ، ويروج من حوله هالة من الضباب التي قد تستر عن الناس خبيثة أمره . 

الا أن الدين نفسه لا ينخدع بشيء من ذلك .



لقد جاء من يعتذر الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يخشى على نفسه الفتنة في الدين لو خرج معه الى جهاد الروم ورأى من حوله نساء بني الأصفر . . فأنزل الله فيه قوله : " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين " ( التوبة : 49 )

وجاء اليه صلى الله عليه وآله وسلم من يتنطع قائلاً : ان بيوتنا في المدينة مكشوفة للعدو وليس فيها الا الصيبة والنساء . . ! حتى ينفلتوا بذلك من الجهاد في حفر الخندق . فانزل الله فيهم قوله : " . . ويستأذن فريق منهم النبي يقولون ان بيوتنا عورة ، وما هي بعورة ان يريدون الا فراراً " ( الأحزاب : 13 ) 

فكيف يتحقق نصر الله للمسلمين اذا كانت ألسنتهم وأقوالهم في واد من الدعاوي ، ونفوسهم تائهة في واد آخر من التنافس على الدنيا والتسابق الى أهوائها ؟!.

ان شيئاً من مقومات النصر الاسلامي لا يمكن أن يثمر في حياة هؤلاء الناس !.

فهم لا يتفقون فيما بينهم . لأن ألسنتهم تلهج بأمر ، ونفوسهم زائغة في الوقت ذاته نحو أمور أخرى ، فلا يوحدهم هدف حقيقي ولا تجمعهم غاية ذاتية معينة . 

وهم لا يثقون بعضهم ببعض ، لأن معرفة كل منهم لواقع نفسه تعتبر دليل اتهام لواقع ما عليه الآخرون !.

وهم لا يتحابون ولا بتوادون عن صدق ، اذ كان تعلق نفوسهم بالدنيا ومغانمها مثار حسد يشيع فيما بينهم ، فلا يكون لأحدهم من شأن أو مكانة أو مال الا وكان في نفوس الآخرين منه حسد يفري نفوسهم أو ضغائن تلهب قلوبهم ، وربما بات أحدهم يتقلب في هم هذه المشاعر أكثر مما يتقلب في هم المسلمين أو في هم المصير الذي ينتظره بين يدي الله عز وجل .

وهم لا يتعاونون ، من أجل ذلك كله ، الا بمقدار ، وهو المقدار الذي يوفر لكل منهم مصالحه ، ويهيىء له السمعة الفاضلة ، والمكانة اللائقة ، فهم انما يتعاونون في الحقيقة ابتغاء هذه المغانم التي لا تتوفر الا من هذا الطريق . فاذا ما امتد بهم السبيل الى ما وراء ذلك رأيتهم تفرقوا في مسالك متباعدة متنافرة ، ورأيت لكل منهم معذرة يعتذر بها ، وتنشد حينئذ الاتفاق والتعاون والاخاء فلا تقع لشيء من ذلك كله على أثر !.

وهم بناء على ذلك كله لا ينصرون ، لأن من بيده المعونة والنصر ناظر اليهم عالم بحقيقتهم ، لا يخفى عليه منهم شيء ، فمهما رأيت جموعاً محتشدة أو سمعت كلمات مخيفة ثائرة أو اطلعت على تخطيط رائع دقيق ، فان شيئاً منه لا يخيف عدواً ، ولا يؤلف رابطة ، ولا يقيم جامعة ، لأنه غثاء . . والغثاء لا يخيف أحداً . 

وصلى الله على من حذر المسلمين من هذا الخطر الأكبر يوم قال :

" يوشك أن تداعى عليكم الأمم ، كما تداعى الأكلة الى قصعتها ، قالوا : أمن قلة نحن يا رسول الله يومئذ ؟. قال : بل أنتم كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، وسينزعن الله الرهبة منكم من قلوب أعدائكم ، وسيقذفن في قلوبكم الوهن ، قالوا : وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت ".

منبع هذا الخطر : 

وانما ينبع هذا الخطر الكبير من مصدر واحد ، هو تعلق القلب بالدنيا ووضعها في أعلى من المرتبة الحقيقية التي وضعها الله عز وجل فيها . الدنيا ليست ، كما يتوهم البعض محصورة في الدرهم والدينار والأرض والعقارات . وانما هي تتمثل في سائر الشهوات التي تميل اليها النفس ، كالمكانة ، والجاه ، والزعامة ، والكبر ، والركون الى مختلف مظاهر النعيم . فكل ذلك من الدنيا التي ابتلى الله الانسان بها ليجاهد نفسه في التعالى عليها والتحرر من أسرها ، وليسوقها بعد ذلك مطية في طريق مرضاة الله تعالى . 

فعندما يتعلق القلب بأهواء الدنيا ، ولا يقوى على التحرر من أسرها ،ولا يجاهد الرجل نفسه في محاولة ذلك ـ يتفرع عن ذلك شتى الأمراض القلبية التي تعتبر من أعظم الآفات الخطيرة في حياة المسلمين . فيبتلى القلب بالكبر والحسد والرياء والعجب وشتى الضغائن والأحقاد ، ويتغلب الشح على النفس ويشيع فيها الزهد في الآخرة ومثوبتها ، ويقل الخوف من عقاب الله وعظيم عذابه ، ويتحول الجهاد عندئذ الى تنافس على الدنيا ، بعد أن كان سعياً للتحرر من رقب والاستعلاء على مغرياتها .

وتأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو يقول فيما يرويه الشيخان : ( . . فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ) . 

وكيف يكون سبيل الهلاك ؟ . . انها كما قلت لك : يبتلى القلب من وراء التعلق بالدنيا بتلك الأدواء والأمراض الخطيرة ، فتتصدع وحدة المسلمين ، ثم تزول الثقة مما بينهم ويتعادى فئاتهم وأفرادهم ، وتزول أسباب التعاون مما بينهم ، ويأكل بعضهم بعضاً بنيران العدوان والبغضاء ، ويجني العدو ثمرة ذلك لنفسه قهراً وبطشاً وانتصاراً . 

فلو مات هؤلاء المسلمون اختناقاً أو دماراً في بيوتهم لكان ذلك أشرف لهم من هذا الهلاك الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أثبته الواقع كما وصف .

من نتائج هذا الخطر:

ومن أعظم نتائج هذا الخطر الأكبر ، ما قد أوضحت لك ، من تهدم أركان المجتمع الاسلامي واضمحلال شأن المسلمين وتفرق أمرهم وتحول العمل الاسلامي فيما بينهم الى شعارات وأعمال سطحية لا ثمرة لها ولا فائدة منها !..

ومن نتائجه أيضاً أن العمل الاسلامي ينقلب في واقع حال الكثيرين منهم الى مجرد تخطيطات شكلية وأمور حركية تستأثر من حياتهم بالسطح الأعلى وحده ، ولا تغوص الى شيء مما وراء ذلك !. اذ كان سلطان الاسلام قد تناقص عن القلب ، ثم ظل يتناقص حتى لم يعد له فيه سلطان ، وعاد الحكم فيه للدنيا وأهوائها ومصالح النفس ومطامحها . وأصحاب هذه القلوب بين الناس مسلمون ، وهم يتمنون لو أن الاسلام عاد الى السيطرة والحكم ، فيرفعوا رؤوسهم به عالياً ويكون لهم به غلبة وسلطان ـ وهي أمنية دنيوية لا تتنافى مع استحكم في قلوبهم وتعلقت به نفوسهم ـ فيذهبون في نصرته والعمل له مذهب أولئك الذين ينتصرون لمذاهبهم الأخرى :عمل حركي بحت يقوم على النظريات والأفكار والتنظيمات السطحية المجردة .

وقد فاتهم أن بين طبيعة الاسلام وطبيعة المذاهب الفكرية الأخرى فرقاً كبيراً .

فالاسلام قائم في ذاته على تحقق معنى العبودية لله في النفس ، وهو المنطلق الأول لكل عمل وحركة وسعي في سبيله ، وهو يكلف المسلم اصلاح قلبه ونفسه قبل كل شيء أما المذاهب الفكرية الأخرى فلا تكلف نفوس أصحابها شيئاً من ذلك ولا تحملهم على أي اجتناب لما أطلق القرآن عليه اسم : " باطن الاثم " ، ولذلك فان دعوتهم اليها تبدأ من عمل حركي وتنتهي الى عمل حركي ، والنفس سائرة معه بطبيعة الحال لأنه لا يكلفها ترك شيء من أهوائها ومشتهياتها .

الا أن اعراض أكثر المسلمين عن هذا الفارق الأساسي الخطير ، واهمالهم ( نتيجة لذلك ) لاصلاح القلب والنفس ، جعلهم يقلدون الآخرين في أسالبيهم ويحصرون أنفسهم في مثل دائرتهم : نقاش ، ومجادلات ، ولقاءات ، وتفتن في الأفكار ، واختراع للمناهج ، ولا شيء من وراء ذلك .

شارك الموضوع

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق