الحمد لله الذي فضّل بعض الأيام على بعض، وفضّل بعض الأماكن على بعض، ثم أرشدنا ودلّنا على هذه الفضائل رحمة بنا؛ ولاغتنام تلك الأماكن بزيارتها لنيل بركتها، والدعاء فيها للوصول للعفو والغفران، فقد فضّل الله سبحانه وتعالى المسجد الحرام على سائر المساجد، ويليه المسجد النبوي في طيبة الطيبة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تم تأسيس أول دولة إسلامية فيها، وصارت مأرز(مجمع) الإيمان، ومهبط الوحي، ومهاجر النبي r، ومثوى الحلال والحرام ومهد الدعوة.
وعلى من أقام في مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعرف لهذا البلد قدره، ويحفظ لهذه المدينة مكانتها وعلو شأنها، ويتعلم كيف يرعى حقوقها.
و قد ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم أحاديث كثيرة في فضائل المدينة، مع بيان مكانة هذا البلد الشريف، وبيان منزلته الرفيعة، وعلو مكانته على بقية الأماكن، و وردت أحاديث في فضل السكن فيها، بل والحرص على الموت بها، ودعا لها الرسول r بالبركة، وحرمها كتحريم مكة المكرمة، وحذر من إحداث أي حدث أو جرم فيها، أو إيذاء أهلها أو التعرض لأحدٍ منهم بسوء، كما وردت الأحاديث في فضل الأنصار الذين كانوا يسكنون بالمدينة، وبايعوا و وآووا و نصروا الرسول r ، وكانوا هم الرجال الذين قامت الدولة الإسلامية الأولى على تضحياتهم.
ونريد أن نستعرض جزءا من هذه الفضائل الكثيرة، والتي تجعلنا نشتاق إلى مدينة رسول الله r، ونحب أهلها، ونرغب في زيارتها.
تعظيم المدينة:
مما ينبغي مراعاته في المدينة أن يعلم ساكنُها أنها محرمة كحرمة مكة المكرمة، مع القيام بما يتعلق بذلك من أحكام، ومن ذلك الحديث المتفق على صحته ـ أي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ـ عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي r أنه قال: "إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها، مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة".
وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يُقطع عضاهها أو يقتل صيدها، المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة".
تحريم ارتكاب الجرائم فيها
الواجب على من أكرمه الله بسكنى هذا البلد المبارك الطيب، أو الإقامة فيه لمدة محدودة أن يرعى له حرمته، ويعرف له مكانته، وينزله منزلته، دون غلو أو جفاء، بل يقيم به وهو مراع لآدابه متبع في ذلك سنة رسوله r مقتف لآثاره، مهتد بهديه، ملازم لنهجه وطريقته، مجتهد بالقيام بطاعة الله تعالى وفعل أوامره، ساع في بذل الخير والإحسان، مجانب للمنكرات و المحرمات والأهواء والمحدثات، فإن الطاعة في هذا البلد ليست كالطاعة في بلد آخر، والمعصية فيه ليست كالمعصية في بلد آخر، فالأعمال تتفاضل بتفاضل الأمكنة والأزمنة، وليس شيء ينفع الإنسان وينجيه من الخسارة والحرمان سوى عمله الصالح.
ومن الأدلة على ذلك ما ورد في قوله صلى الله عليه و سلم : "إني حرمت ما بين لابتي المدينة، أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف"رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أنشدها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجر إلا أن يُعلف رجل بعيره"رواه أبو داود وصححه عدد من العلماء.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله r "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" متفق عليه أي رواه البخاري ومسلم.
والرسول r بذلك قد حدد حدود الأرض المحرمة من المدينة من الجهات الأربع، فأما ثور فهو جبل شمال المدينة، وعير جبل يقع جنوبها، وبينهما الحدود التي يقع فيها التحريم، وأما لابتي المدينة هي الحرّات عن شرقها وغربها.
ومن هذه الأدلة يجب أن يحذر ساكن المدينة من أن يحدث فيها حدثا أو جرما، أو يؤوي فيها أحد من المحدثين أي من المجرمين والظالمين الذين يرتكبون المحرمات والجرائم ويهربون من العدالة، حتى لا يتعرض بذلك لسخط الله ووعيده، وكيف يرضى لنفسه من أكرمه الله بسكنى هذا البلد الطيب أو الإقامة به لفترة محدودة أن يرتكب فيه الأمور المحدثة والبدع المنكرة التي حذر منها الرسول الكريم r بل شدَّد في الوعيد على ذلك كما في الحديث عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيr قال: "المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إلى كَذَا؛ لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ؛ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" متفق عليه، الحَدَث وَالمُحْدِث: الظُّلْم وَالظَّالِم.
حبه r للمدينة وبها يجتمع الإيمان
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: "إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلى المَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحْرِهَا" متفق عليه. أي رواه البخاري ومسلم. يأرز: ينضمُّ ويجتمع.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي الله r: "كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جُدرات المدينة أوضع راحلته، أي حملها على سرعة السير وإذا كان على دابة حركها من حبها" أي أسرع من حبه للمدينة.
الدعاء للمدينة بالبركة
وفي الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : "اللهم اجعل لنا بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إِذَا رَأَوْا أوَّل الثَّمر جاءوا به إلى رسول الله r فإذا أخذه رسول الله r قال: "اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ" رواه مسلم.
حماية المدينة من الأوبئة والدجال
ولما أحس المهاجرون بالأمراض تحاصرهم في المدينة، والأوبئة قد تفتك بهم، وتذكروا حبهم لمكة المكرمة فشكوا إلى الرسول e فدعا للمدينة، ولأهلها، ودعا أن ينقل الله تعالى أمراضها إلى مكان آخر غير مأهول بالسكان. كما ورد في الحديث المتفق عليه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: لما قدم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينة، وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالتْ: فدخلت عليهما، قُلْت: يا أبت كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك؟
قالتْ: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله.
وكان بلال إذا أقُلْعت عنه يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليل.
وهل أردن يومَا مياه مجنة *** وهل يبدون لي شامة وطفيل.
قالتْ عائشة: فجئت إلى رسول الله e فأخبرته، فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقُلْ حماها فاجعلها بالجحفة)متفق عليه. وبالتأكيد فقد استجاب الله تعالى هذا الدعاء من خير الآنام نبينا محمدe، وصارت المدينة خالية من الأمراض، وسلم أهلها من الأوبئة، فكانت خير دار لأفضل سكان.
والدجال لا يدخل المدينة، كما روى أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ e يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلاً عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا بِهِ أَنَّهُ قَالَ: "يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ المَدِينَةِ، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي المَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ؛ وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ e حَدِيثَهُ. فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ. فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ: وَاللهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ. فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلاَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ" متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال" رواه البخاري ومسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إِلاَّ مَكَّةَ، وَالمَدِينَةَ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ، إِلاَّ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ المَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ"متفق عليه.
فعلى ساكن المدينة أن يجتهد في حب هذا البلد الطيب، مع القيام بمقتضى ذلك من الحقوق والآداب.
الصبر على السكنى فيها
ينبغي على ساكن المدينة أن يصبر على شدتها أو لأوائها وجهدها، فإن ذلك من أسباب نيل شفاعة الرسول e، وقد حبَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في البقاء في المدينة؛ فعن قَطَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ الأَجْدَعِ، عَنْ يُحَنَّسَ مولى الزُّبير، أخبره أنَّه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر في الفتنة، فأتته مولاةٌ له تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فقالت: إنِّي أردتُ الخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ. فقال لها عبد الله: اقْعُدِي لَكَاعِ؛ فإنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاَ يَصْبِرُ عَلَى لأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلاَّ كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"رواه مسلم، و امْرَأَةٌ لَكَاعِ: يُطْلَقُ ذلك على اللئيم، وعلى العبد، وعلى الغبي الذي لا يهتدي لكلام غيره، وعلى الصغير، وخاطبها ابن عمر بهذا إنكارًا عليها لا دلالة عليها؛ لكونها مِمَّنْ ينتمي إليه ويتعلَّق به، وَحَثَّهَا على سُكْنَى المدينة لما فيه من الفضل. راجع شرح النووي لصحيح مسلم. وأسأل الله جل وعلا أن يكرمنا وإياكم بشفاعته صلى الله عليه.
عدم إيذاء أهل المدينة:
وليحذرْ ساكنُ المدينة أو المقيم بها من التعرض لأهلها بسوء، أو التربص لهم بمكر وكيد فيناله وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فعل ذلك، فعن سَعْدٍ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لاَ يَكِيدُ أَهْلَ المَدِينَةِ أَحَدٌ إِلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ المِلْحُ فِي المَاءِ" رواه البخاري، انماع أي: سَأَلَ وَجرى. وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَهَا بِسُوءٍ -يُرِيدُ المَدِينَةَ- أَذَابَهُ اللهُ كَمَا يَذُوبُ المِلْحُ فِي المَاءِ"رواه مسلم.
وليتذكر كل من يسكن أو يقيم في المدينة أنها موطن الرسول الكريم e وصحابته الأخيار من المهاجرين والأنصار، فهم من أقاموا على هذه الأرض الطيبة، وتحركوا فيها، وأسسوا فيها عاصمة الإسلام الأولى، ودافعوا في جنباتها عن مجد الإسلام، ورفعة المسلمين، وهم من مشوا في جنباتها على الخير والاستقامة، وليحذر المسلم أن يبتعد فيها عن الاستقامة والطاعة، أو يتحرك عليها بتحرك يخالف أمر الله تعالى، أو يبتعد عن الاقتداء بهدي رسولهe فلا يكون تحركه فيها على وجه يسخط الله تعالى، ويعود عليه بالمضرة في الدنيا والآخرة.
تمني الموت فيها:
نسأل الله تعالى أن يحبب إلينا المدينة، ونسأله تعالى أن يرزقنا حسن المقام بها، بل ونسأله تعالى أن يمنحنا الموت والدفن فيها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله e: "مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا؛ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا" رواه الترمذي وحسنه، وصححه الشيخ عبد القادر الأرناؤوطفي جامع الأصول9/321 (6939)، وحسنه عدد من العلماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1. فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني كتاب فضائل المدينة جـ 4 من صـ 81 إلى101.
2. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للإمام النووي، في أواخر كتاب الحج أبواب منوعة عن فضائل المدينة الأحاديث من رقم 1360 إلى رقم1399.
3. جامع الأصول لأحاديث الرسول e بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط الجزء التاسع الفصل الثاني في فضل مدينة رسول اللهe الأحاديث من رقم 6913 إلى6970 من صـ304 إلى صـ 338 .
بعض مواقع الإنترنت، موقع الدرر السنية، وموقع المحدث، والشبكة الإسلامية وغيرهم.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق